ملف «الحرية».. الخصوصيّة السورية حاضرة على التوازي مع الإنجاز العلمي..”أكساد” يعيد تصويب بيئة إنتاج المحصول الاستراتيجي الأهم في سوريا والعالم العربي

مدة القراءة 10 دقيقة/دقائق

الحريّة – نهى علي :

بدت مشكلة القمح في سوريا في أحد جوانبها.. مشكلة صنف، هكذا تؤكّد التجارب على مرّ عقود طويلة من الزمن، ما يشي بأن زيادة الإنتاج واستعادة ألق هذا المحصول السوري، يبدأ من معالجة الأصناف، ولاسيما أن تخبطاً حصل في هذا القطاع بعد اعتماد زيادة حصّة الأصناف الطرية على حساب الصنف القاسي، وهو الصنف السوري الأصلي.
فما هو واقع خريطة الأصناف في سوريا..وكيف ستستعيد البلاد غلالها ” الثمينة” من المحصول الاستراتيجي الأساسي..؟؟

خصوصيّة سوريا

المتّفق عليه أن محصول القمح في سوريا – وهو استراتيجي بامتياز – يمثّل أحد عناصر الخصوصية السورية وميزة نسبيّة كبيرة تكاد تكون مطلقة.
هذا ما يؤكده الدكتور نصر الدين العبيد مدير عام ” أكساد”، وهو يقود بيت خبرة ترك بصمات واضحة في المضمار العربي عموماً وفي مختلف مجالات تطوير القطاع الزراعي.

د. العبيد: مناخ البحر الأبيض المتوسط السائد في سوريا الذي يتسم بكونه بارداً وممطراً شتاءً وحاراً وجافاً صيفاً .. ساعد كثيراً على زراعة وإنتاج القمح

إذ يلفت الدكتور العبيد في لقاء مع صحيفتنا “الحريّة” إلى أنّ مناخ البحر الأبيض المتوسط السائد في سوريا الذي يتسم بكونه بارداً وممطراً شتاءً، وحاراً وجافاً صيفاً، ساعد كثيراً على زراعة وإنتاج القمح، الذي يحتاج درجات حرارة معتدلة (15 و25 م0) للنمو، وهطل مطري يتراوح بين 350 و 600 ملم/ سنة. فكانت سوريا تاريخياً بلداً مصدّراً للقمح إلى اليمن والجزيرة العربية والبلاد الأخرى، وقد أشار القرآن الكريم في سورة قريش إلى ذلك.

تراجع ثم استدراك

يلفت مدير عام “أكساد” إلى أن سوريا ظلّت منتجة ومصدّرة للقمح القاسي الحوراني إلى أوروبا وإيطاليا بشكلٍ خاص لصناعة المعكرونة الفاخرة، إلا أنّه وبسبب الجفاف الشديد الذي حدث في نهاية سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وإهمال الزراعة، والنمو السكاني المتزايد، تغيير العادات الاستهلاكية والتفضيلية، وتراجع خصائص الترب الزراعية الفيزيائية والكيميائية، وتدني كفاءتها الإنتاجية، وتدهور مقدرة النظم الزراعية التكيفية، بسبب التغيرات المناخية، التي ألقت بظلالها على القطاع الزراعي، والإرباكات في الإنتاج الزراعي التي حدثت نتيجة إعادة هيكلة ملكية الأراضي الزراعية، فقد انخفض الإنتاج الإجمالي من محصول القمح، وتحولت سوريا إلى دولةٍ مستوردة لحبوب القمح، حتى بدايات الثمانينيات، حيث جنّدت سوريا كل إمكاناتها للنهوض بزراعة القمح من جديد، وترافق ذلك بإنشاء شبكات الري الحكومية الكبرى، واستصلاح الأراضي المتملحة والمتدهورة، ودعم المزارعين، وإقراضهم مالياً وعينياً بالبذار المُحسّن والأسمدة المعدنية والمبيدات، وتفعيل خدمات البحوث الزراعية وتطبيق نتائجها على الأرض بالتعاون مع الإرشاد الزراعي، ورفع سعر استلام القمح من الفلاحين.

سوريا كانت منتجة ومصدّرة للقمح القاسي الحوراني إلى أوروبا وإيطاليا بشكلٍ خاص لصناعة المعكرونة الفاخرة..

بصمات الخبرة

هنا لا بدّ أن يُشار إلى البصمات التي تركتها المراكز البحثية وعلى رأسها “أكساد” في سوريا، فالدكتور نصر الدين العبيد، يسرد هنا ما يبدو بالغ الأهميّة لجهة توثيق “سفر” القمح السوري، ويشير إلى أنه كان لإنشاء المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة “أكساد” في سوريا عام 1968، والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة “إيكاردا” في سوريا عام 1977، وتفعيل خدمات المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح “سيميت” في المكسيك المبنية على نتائج الثورة الخضراء التي قادها الدكتور نورمان بورلوغ الحائز على جائزة نوبل للسلام، التي أنتجت العشرات من أصناف القمح قصيرة الساق المقاومة للأمراض والرقاد تحت ظروف الزراعة المروية مع تقديم معدّلاتٍ مرتفعة نسبياً من الأسمدة، كان له أكبر الأثر في نجاح مراكز البحوث الزراعية الوطنية في استنباط أصناف القمح بنوعيه الطري والقاسي عالية الإنتاجية والمتحملة للجفاف والحرارة المرتفعة، والمقاومة للعديد من المسببات المرضية والآفات الحشرية، من خلال تنفيذ تجارب حقلية واسعة النطاق بالتعاون مع أكساد وإيكاردا والسيميت على مستوى المحطات البحثية في مراكز البحوث الزراعية، وفي حقول الفلاحين في المناطق الزراعية المروية، والبعلية جيدة الأمطار (400 – 600 مم/سنة)، والمناطق قليلة الهطل المطري (250 – 350 ملم/سنة)، التي زرعت على نطاقٍ واسع في مختلف المناطق الزراعية، ما أدى إلى رفع زيادة إنتاجية القمح في سوريا وتمكين الكثير من الفلاحين الحصول على إنتاجية تراوحت بين 6 – 8 أطنان/هكتارات في المناطق المروية، ونحو 4 -5 أطنان/هكتارات في المناطق البعلية جيدة الأمطار، وذلك عند تقديم حزمة الممارسات الزراعية الموصى بها، وبناءً عليه، فقد تطورت إنتاجية القمح المروي في سوريا في وحدة المساحة من 2 طن/هكتار (متوسط الفترة 1970- 1979) إلى 4 أطنان/ هكتارات (متوسط الفترة 2000-2008) وينطبق الأمر نفسه على القمح البعلي، وهذا مؤشر واضح على الدور الحيوي لأكساد وإيكاردا والسيميت في زيادة إنتاجية القمح في سوريا، ما خفّض كميات القمح المستوردة من 1 مليون طن عام 1989 إلى 80 ألف طن فقط عام 1992، وليس ذلك فحسب، بل تمكنت سوريا من تصدير275 ألف طن عام 1996، و1.5 مليون طن عام 2007 ، ووصل الإنتاج السنوي في سوريا إلى 4 ملايين طن عام 2010، وكانت التجربة السورية في تطوير إنتاج القمح محط اهتمام العالم، ولا سيّما الدول النامية للاستفادة منها، وكان قد عبّر الدكتور نورمان بورلوغ في كلمة له في المركز الدولي “سيميت” في المكسيك عام 1995 عن إعجابه بهذا الإنجاز السوري الكبير، بمقولته “لقد أبلى الفلاح السوري بلاءً حسناً في مضاعفة إنتاج سوريا من القمح وتحقيق الأمن الغذائي”.

أبحاث ضمنت زيادة إنتاجية القمح في سوريا وتمكين الكثير من الفلاحين الحصول على إنتاجية تراوحت بين 6 – 8 أطنان/هكتارات في المناطق المروية.. ونحو 4 -5 أطنان/هكتارات في المناطق البعلية جيدة الأمطار

صنف أكثر شهرة

يشير مدير عام ” أكساد”، إلى دور صنف القمح القاسي أكساد 65 الذي ابتكره أو استنبطه خبراء منظمة أكساد في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بسبب كفاءته الإنتاجية العالية في المناطق المروية والبعلية على حدٍ سواء، ولا يزال الكثير من المزارعين في سوريا ولبنان والدول العربية الأخرى يرغبون بزراعته حتى الآن، وينطبق الأمر ذاته على الصنف جزيرة 17 الذي أنتجته البحوث الزراعية السورية، الذي نال شهرة واسعة في تلك الحقبة الزمنية لدى الفلاحين السوريين، والصنف شام1 المستنبط في المركز الدولي “إيكاردا” والمتميز بأدائه الجيد، فكان لهذه الأصناف دور مهم في تعزيز إنتاج القمح في سوريا. وبفضل الجهود المتميزة للمؤسسة العامة لإكثار البذار في وزارة الزراعة السورية، تمّ توفير البذار الجيد المغربل والمعقم، ذي النوعية العالية للفلاحين السوريين.

أسهم القمح القاسي أكساد 65 الذي ابتكره أو استنبطه خبراء منظمة أكساد في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بسبب كفاءته الإنتاجية العالية في المناطق المروية والبعلية على حدٍ سواء

تطوير

ينظم “أكساد” بشكل دوري عقد المؤتمرات والندوات العلمية والدورات التدريبية للمهندسين الزراعيين والفنيين في سوريا والدول العربية بمختلف المجالات المتعلقة بالقمح.
ويعدّ التعاون العلمي في تنفيذ التجارب الحقلية المشتركة بين منظمة أكساد والبحوث الزراعية السورية أنموذجاً للتعاون الناجح مع المنظمات الدولية المتخصصة بالقمح، نظراً لما صدر عنه من نتائج تسهم في تطوير زراعة القمح، وبشكل خاص استنباط أصناف القمح الحديثة التي تخدم الزراعة في سوريا والمنطقة العربية.

التعاون العلمي في تنفيذ التجارب الحقلية المشتركة بين منظمة أكساد والبحوث الزراعية السورية أنموذجاً للتعاون الناجح مع المنظمات الدولية المتخصصة بالقمح

كما يقوم مركز أكساد ضمن إطار التعاون العلمي بتزويد سوريا والدول العربية سنوياً بنحو 20 سلالة مبشرة من كلٍ من القمح الطري والقاسي، عالية الإنتاجية ومتحملة للحرارة المرتفعة والجفاف، للتقييم أدائها بالمقارنة مع الأصناف المهتمة محلياً في مراكز البحوث الزراعية العربية، واعتماد المتفوق منها، ومن الجدير بالذكر أنّ هذه السلالات تم تطويرها في برنامج التربية والتحسين الوراثي في محطة بحوث أكساد في إزرع الواقعة في منطقة زراعية جافة وحارّة نسبياً، لا يتجاوز فيها معدل الهطل المطري السنوي 300 ملم/سنة، ما يعطي هذه السلالات ميزة تحمل الجفاف والحرارة المرتفعة مع المحافظة على الكفاءة الإنتاجية العالية، كما يتم اختبار مقاومتها للأمراض والحشرات في محطة بحوث أكساد في السنّ الواقعة على الساحل السوري، حيث معدل الأمطار العالي الذي يقارب 800 ملم/سنة، مع توفر الحرارة والرطوبة الجوية العالية ما يشكل بيئة مناسبة لانتشار الأمراض الفطرية بشكل خاص، ما يساعد على كشف مقاومتها للأمراض.

يزوّد “أكساد” سوريا والدول العربية سنوياً بنحو 20 سلالة مبشرة من القمح الطري والقاسي عالية الإنتاجية ومتحملة للحرارة المرتفعة والجفاف

براعة سورية

يختم الدكتور العبيد لقاءه مع “الحرية” بعبارات تحمل عبق وجداني طيب ويقول: من هذه الأرض المباركة، من بلاد الشام، نشأت زراعة القمح منذ أكثر من عشرة آلاف عام، هذا المحصول الذي أنعم الله تعالى به على الإنسان ليكون مصدر غذائه الأساسي عمل الفلاح السوري على تطوير أساليب زراعته، فاخترع المحراث لتحضير الأرض وتهيئة الظروف المناسبة لنمو نباتاته، والمنجل لحصاده، وفي خطوة تعد ابتكارية في ذلك الزمن البعيد قام بانتخاب نباتات القمح القوية جيدة النمو ذات السنابل الكبيرة والحبوب الذهبية الممتلئة، وبهذا العمل وضع فلاح القمح السوري اللبنة الأولى لعلم تربية القمح واستنباط الأصناف بالانتخاب الإجمالي الذي لا يتطلب أي معلومات تتعلق بالطرز الوراثية، ومع مرور الزمن استطاع أن يطوّر أصنافاً من القمح أكثر إنتاجية، وذات مواصفات حبوب جيدة لتصنيع الخبز، ولا تزال شهرة القمح القاسي الحوراني ماثلة في الأذهان بسبب مقاومته العالية للجفاف ومواصفات حبوبه الجيدة، ومن الشام انتقلت زراعة القمح إلى أقاصي الأرض شرقاً وغرباً.

اقرأ ايضاً:

ملف «الحرية».. هل تستطيع سوريا العودة إلى إنتاجيتها السابقة؟.. تصدير القمح مرهون باستثمار كامل مناطق الاستقرار الزراعي

 

Leave a Comment
آخر الأخبار