ملف «الحرية».. “مشروعات الفقراء” تتصدّر واجهة خيارات الباحثين عن استنهاض الإمكانات في زمن الندرة.. ضياع موارد وفوات فرص إنعاش اقتصادي واجتماعي

مدة القراءة 10 دقيقة/دقائق

الحريّة – نهى علي :

عندما يجري الحديث عن ” اقتصاد الندرة.. تكون إحدى أبرز المفردات التي يتم تداولها، ما يتعلّق بتجميع القدرات الكامنة واستنهاضها، وستكون المشروعات متناهية الصغر، أو الأسرية الميكروية في واجهة اهتمام من يتحرى عن الإمكانات الكامنة لتحريضها.
إلّا أن هذا النوع من المشروعات لم يحظَ بكفايته من العناية، طوال عقود وسنوات طويلة، على الرغم من كثرة الأحاديث والخطط لدعمها ومنحها ما يلزم من العناية للنهوض بها، ويمكن لأي أحد أن يرصد حجم المفارقة والهوة الكبيرة بين الخطط الحكومية السابقة والبرامج والاجتماعات، وبين ما تحقق على الأرض، وسيجد أن ما تحقق هزيل بكل معنى الكلمة، وحتى لم يكن من فرط العناية الحكومية، بل بمبادرات ذاتية مدفوعة بعامل الحاجة والفقر.
وربما هي مفاجأة أن نعلم، أن أي منتج مطروح في الأسواق من مخرجات المشروعات الأسريّة.. هو عرضة للمصادرة من قبل أي دورية رقابة عابرة، والسبب أنه غير مرفق بشهادة المنشأ، ولا بالبيان الجمركي المطلوب بالنسبة للسلع المستوردة.. فلماذا الاجتماعات والخطط إذاً؟
الآن يبدو المطلوب بإلحاح ” مأسسة” هذا القطاع.. أدوات ومعدات إنتاج وتعليب وتغليف.. باركود.. وتسهيلات تؤهل مخرجات هذه المشروعات للنفاذ إلى الأسواق الداخلية أو الخارجية، بما أن ثمة ميزات نسبية معززة لهذا النفاذ، لكنها ضائعة بسبب عدم القدرة على تصويب أداء هذا القطاع وتنظيمة.. فكيف يمكن أن يتحقق ذلك.

د. اسمندر: لا توجد بيئة محابية لقطاع المشروعات الصغيرة والأسرية في سوريا وهذه المشكلة قديمة في بلدنا

عن كل ما سبق سألت ” الحريّة” الدكتور إيهاب اسمندر الخبير الاقتصادي والتنموي، ومدير عام هيئة تنمية المشروعات لفترة من الزمن، مكّنته ربما من التقاط أبرز أوجاع هذا القطاع.

فقراء بلا نفوذ

يرى د. اسمندر أنه بشكل عام لا توجد بيئة محابية لقطاع المشروعات الصغيرة والأسرية في سوريا, وللإنصاف، هذه المشكلة قديمة في بلدنا، وبشكل عام لم يكن في سوريا على الدوام بيئة أعمال مناسبة لأي نوع من المشروعات بغض النظر عن حجمها، لكن مشكلة المشروعات الصغيرة الأسرية أنها لا تتحمل تكاليف تحقيق الاشتراطات الإدارية والفنية اللازمة لقوننة عملها بشكل كامل وبالوقت نفسه قلّما يكون أصحابها من ذوي النفوذ بما يمكنهم من العمل من دون مضايقات، هذا الأمر يقتضي إصدار ترخيص مؤقت إداري وفني لهذه المشروعات، يغطي علاقتها مع مختلف الجهات، ريثما تستكمل هذه المشروعات شروط الترخيص الدائم…
ونظن أنّ – كلام الدكتور اسمندر- حول هذه النقطة غاية في الأهمية، ويمكننا ترجمتها بأن ” مشروعات الفقراء” ليس لها سند قادر على النفاذ من أجل حمايتها واستمرارها.

نحو مخرجات لائقة

أما النقطة الثانية والمتعلقة بسيطرة الإنتاج اليدوي على مخرجات المشروعات متناهية الصغر والأسرية، فهي مشكلة وسبب في عدم قدرة هذه المخرجات على التمتع بـ” اللياقة ” اللازمة للنفاذ إلى الأسواق.. وبالتالي لا حلّ سوى بمكننة هذه المخرجات والإنتاج.

مشكلة المشروعات الصغيرة الأسرية أنها لا تتحمل تكاليف تحقيق الاشتراطات الإدارية والفنية اللازمة لقوننة عملها بشكل

فبخصوص مكننة الإنتاج، يعدّ الخبير اسمندر أنه لا بدّ من التعامل مع أهمية المكننة على أنها نسبية وليست مطلقة، فكثير من المشروعات الصغيرة والأسرية يكون من ميزاتها العمل بالأسلوب اليدوي؛ حيث يعطيها ذلك قوة تنافسية مهمة مع المنتجات الآلية، مع ذلك ليس من الخطأ السعي لتطوير الإنتاج الآلي في المشروعات الصغيرة والأسرية بما يناسبها، لكن هذا الأمر يتطلب تكاليف عالية لحدِّ ما، وربما أكبر من قدرة الكثير من أصحاب المشروعات، ما يقتضي رعاية خاصة من جهة أو جهات وصائية، لتوفير تدريب مناسب على الآلات وتقديم قروض بشروط ميسرة لشراء الآلات المطلوبة.

ارتكاس تسويقي

ونأتي الآن إلى حصيلة كل ما سبق من ثغرات، أي ما يتعلّق بالتسويق والترويج، وهنا يرى د. اسمندر أن هذه من المشكلات المعقدة؛ إذ تعاني 72% من المشروعات الصغيرة والأسرية في سوريا من صعوبات في مجال التسويق، كما أنّ موضوع التسويق ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى تدريب خاص يتلقاه صاحب المشروع لأنه في المشروعات الصغيرة والأسرية، لن يكون هناك شخص متخصص بالتسويق بل يقع عبء هذا الجانب على صاحبه، إضافة لذلك يفضل تخصيص أماكن لعرض وبيع منتجات هذه المشروعات سواء بشكل دائم (نوافذ بيع وصالات..) أو بشكل مؤقت (مهرجانات تسوق وأسواق شعبية)، ويفضل أيضاً التشبيك مع شركات تسويق يمكنها الولوج للأسواق بشكل أكثر احترافاً.

كامل و بالوقت نفسه قلّما يكون أصحابها من ذوي النفوذ بما يمكنهم من العمل من دون مضايقات

تمويل

لمزيد من تمكين المشروعات الصغيرة والأسرية، يقترح الخبير اسمندر توحيد جهة الإشراف عليها بمؤسسة واحدة منعاً لبعثرة الجهود، ومتابعة ظروف هذه المشروعات بشكل دائم، وتوفير قروض ميسرة بفوائد مدعومة مع ضمان القروض لمن لا يستطيع تقديم الضمانات المطلوبة، مع زيادة عدد بنوك ومؤسسات التمويل الصغير بما يغطي حاجة سوق التمويل في سوريا، خصوصاً في ظل القُصور المزمن فيها، مع عجز المؤسسات القائمة عن تغطية أكثر من 6% من حاجة سوق التمويل الصغير في البلاد.

في العموم

وبالعموم يجمل الدكتور اسمندر رأيه فيما سبق.. بالقول: إن المشكلة التسويقية ليست مرتبطة بالضرورة بمكننة الإنتاج، فأحياناً الإنتاج اليدوي مرغوب في بعض الحالات أكثر من الإنتاج الآلي.. لذلك مشكلة التسويق موجودة لأن الكثير من أصحاب المشروعات الصغيرة والأسرية لا يجيدون التقنيات اللازمة لذلك، ويظنون أنّ التسويق شيء سهل مع أنه علم قائم بحد ذاته.
ويفضل الخبير هنا؛ تقديم تدريب خاص لأصحاب المشروعات الصغيرة والأسرية في مجال التسويق، وتشبيكهم مع شركات تسويق متخصصة، لتقوم بهذا الجانب، مع توفير أماكن لعرض وبيع منتجات المشروعات سواء بشكل دائم أو مؤقت.
وهذا الموضوع يمكن حله من خلال التراخيص الإدارية والفنية المؤقتة.. ثم تبسيط اشتراطات الترخيص الدائم.. ووجود جهة وصائية قادرة على متابعة المشروعات ومنتجاتها.. وتشبيك المشروعات مع شركات أكبر بحيث تشرف الشركات الكبيرة على الإنتاج وتشتريه بالكامل على مسؤوليتها، وهذا يكون خيار الجهة الوصائية، هي تضع خطة تطوير بيئة أعمال القطاع والتعاون في ذلك مع جهات أهلية أو أكاديمية أو غيرها حسب الحاجة بما يخدم المشروعات ويحسن عملها.

كثير من المشروعات الصغيرة والأسرية تمتاز بأسلوب العمل اليدوي حيث يعطيها ذلك قوة تنافسية مهمة مع المنتجات الآلية

على العموم يرى اسمندر أن المأسسة ليست فقط من خلال التعاون بل هو أحد أدواتها.. فالمأسسة من خلال وجود الجهة الوصائية القادرة على إدارة القطاع والإشراف عليه وتطويره.. يرى ضرورة التشبيك مع شركات متخصصة بالتسويق، هي تأخذ الإنتاج من المشروعات وتعمل على تسويقه في الأسواق المناسبة بالطرق المناسبة.

خطة مرتبكة

طالما أنه لا توجد في سوريا خطة متكاملة للنهوض بقطاع المشروعات الصغيرة والأسرية ستبقى كل الحلول مجتزأة.. فالحلول المتكاملة تبدأ من تبسيط إجراءات الترخيص.. وتوفير أماكن مؤهلة للعمل.. وتأمين الكهرباء والفيول والمازوت وحوامل الطاقة بتكلفة مناسبة.. ثم تحسين خدمات النقل وخدمات المراكز الحدودية والموانئ..وتسهيل نفاذ المشروعات للتمويل وتخفيض تكلفة التمويل وتقليل الضمانات المطلوبة والفائدة على القروض.
ويختم: الكلام يطول، فسوريا بحاجة إصلاح اقتصادي شامل ومن ضمنه قطاع المشروعات الصغيرة والأسرية.

تشخيص سابق

عموماً يرى الخبراء في دراسات تمّ إعدادها خلال فترات مضت.. ومنهم الدكتور شامل بدران، أنّ عدم معرفة مدى مساهمة المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي من أهم الإشكالات في الاقتصاد السوري، وذلك نظراً لعدم توافر بيانات دقيقة عن حجم هذه المشروعات، وحجم نشاطها من جهة، وطريقة حساب الناتج المحلي الإجمالي من جهة أخرى، بحيث تتم عملية التجميع على المستوى الوطني، حيث يتم في ظل غياب البيانات والمعطيات، تقدير البيانات على المستوى القطاعي، ما يعطي صورة غير دقيقة عن حجم المساهمات الفعلية في الناتج المحلي الإجمالي.

تعاني 72% من المشروعات الصغيرة والأسرية في سوريا من صعوبات في مجال التسويق

وهنا ثمة أهمية كبيرة لتحديد الفئات المستهدفة بدقة عالية وفق آليات وتطبيقات برمجية حديثة: (الأسر المستهدفة، المنشآت المستهدفة، الأفكار والمشروعات التي يتطلب تنفيذها لاحقاً)، وذلك من خلال بناء قاعدة معلومات متطورة وموثوقة.
وكخطوة لاحقة لابد من إنشاء آليات جديدة لمعرفة المستهدفين من خلال إنشاء تطبيقات برمجية سهلة التعامل لإضافتهم لقاعدة البيانات الأساسية، والتحقق من البيانات والمعطيات من خلال فرق عمل ميدانية.

خريطة قروض

وثمة ضرورة لتوجيه الإقراض باتجاه القطاع الزراعي والتصنيع الزراعي نظراً لاعتماد الحكومة حالياً على القطاع الزراعي كحامل أساسي لتجنيب البلد وطأة الحصار الجائر، وكداعم للأسر الأشد احتياجاً، فبالرغم من أهمية تلك الإستراتيجية حالياً، إلّا أن تعزيزها يتطلب إستراتيجية تصنيع زراعية، لأن الصناعة تقدم قيماً مضافة أعلى، ويمكن الاستفادة من تكنولوجيا الإنتاج المتقدم، وكل ذلك يقتضي توجيه “مؤسسات التمويل الأصغر” لتعبئة الموارد وفق مصلحة الاقتصاد الوطني.

تقديم تدريب خاص لأصحاب المشروعات الصغيرة والأسرية في مجال التسويق وتشبيكهم مع شركات تسويق متخصصة لتقوم بهذا الجانب

ومن المهم وفق الدراسات.. بناء شبكة مصرفية حديثة تعتمد آليات غير تقليدية للوصول إلى المقترضين، وذلك يتطلب تحديد خريطة دقيقة نوعاً ما للمستهدفين، ثم منح التراخيص وفق تلك المعطيات من حيث عدد المستهدفين، وخريطة التوزع الجغرافي، والاعتماد على طرق فنية حديثة ومتطورة لتقييم المشروعات المستهدفة، وتسهيل عملية التسجيل للمشروعات من خلال وضع برمجيات سهلة لملء البيانات الأساسية المطلوبة، بحيث يتم تقييم المشروعات من قبل فريق متخصص، وإعطاء نتائج التقييم للمشروعات الناجحة، ومنح القروض بسرعة خلال مدة لا تتجاوز الشهر، إلى جانب تدريب كادر فني لتقييم المشروعات معتمد من قبل المصارف ونقابة المهن المالية والمحاسبية.

اقرأ ايضاً:

ملف «الحرية».. الإجهاد المائي مستمر وتحذيرات من عجز مائي يطول سوريا بحلول 2030 …

Leave a Comment
آخر الأخبار