منطق التصفيق الرقمي: لماذا نطارد “اللايك” أكثر مما نبحث عن الحقيقة والمعرفة؟

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية – حسين الإبراهيم:

  • ماذا لو سرق كل لايك جزءاً من وعيك؟
  • كيف يُحول زر بسيط أولوياتنا: من المعرفة إلى الانتشار؟
  • لماذا تنتصر المعلومة المثيرة على الحقيقة الثقيلة؟
  • هل نحن من يختار المحتوى أم تختاره الخوارزميات؟

تحول إعجابنا بالمنشورات “اللايك” من إشارة تفاعل عفوية إلى آلية اجتماعية ـ نفسية – اقتصادية تهيمن على سلوكنا الرقمي، حيث تصبح كل ضغطة زر تعزيزاً لقابلية الانتشار على حساب الحقيقة والمعرفة.

كلما ازداد حضورنا الرقمي، تراجع الالتزام بالعمق لصالح ما يجذب التفاعل السريع، ما يولد مفارقة: نحن أكثر تواصلاً لكن أقل إدراكاً.

هذه الإشكالية ليست تقنية فحسب، بل تحول في كيفية إنتاج المعنى نفسه.

معطيات: أرقام تكشف السباق

  • يشهد فيسبوك 6 مليارات لايك يومياً، بينما ينتشر 70% من المحتوى المضلل بسرعة أعلى 6 مرات من الحقائق بفضل التفاعل.
  • يولّد إنستغرام 4.2 مليارات لايك يومياً، مع ارتفاع معدلات الاكتئاب بنسبة 27% لدى المستخدمين الذين يقارنون تفاعلاتهم.
  • يولّد تيك توك 1.5 مليار فيديو يومياً، 80% منها مصمم للخوارزميات لا للقيمة المعرفية، مع تراجع وقت القراءة بنسبة 40% عالمياً.

السلطة الناعمة: إعادة ترتيب الوعي

يعيد اللايك ترتيب أولوياتنا دون إكراه، موجهاً الانتباه نحو القبول الجماعي كمعيار وحيد، تماماً كـ “السلطة الناعمة” التي تغري دون أن تأمر.

مقارنة بالإعلام التقليدي، حيث يقاس النجاح بالمشاهدة، يصبح اللايك هنا مقياساً زائفاً لـ”صحة” الفكرة، ما يتيح للمعلومات المضللة الانتشار كالحقيقة.

هل هذا اختزال للمعرفة إلى أرقام، أم إعادة تعريف للقيمة؟

مرآة الذات: تقدير مشروط

يصبح اللايك مرآة لتقدير الذات، حيث تتحول المقارنة المستمرة إلى سمّ نفسي يربط القيمة الشخصية بالتفاعل الرقمي. ومن تجربة شخصية: نشرت تحليلاً عميقاً حصد 50 لايكاً، بينما حظي منشور إثارة سطحي بـ 10 آلاف؛ شعرت بالفراغ رغم صحة كلامي.

وأستحضر مقولة نيتشه: “من ينظر طويلاً إلى الهوة، تنظر الهوة إليه” – هنا الهوة هي شريط اللايكات.

انتماء أم ذوبان؟ ضغط الهوية

الحقيقة

يعمل اللايك كإشارة انتماء رقمي سريعة، لكنه يحول الجماعات الافتراضية إلى فقاعات تضغط على الفرد للتوافق، ما يؤدي إلى ذوبان الهوية الشخصية في الرأي الجماعي دون نقاش حقيقي.

العمق

على صعيد قيود الانتشار، يعتمد اللايك على تفاعل سطحي (ثوانٍ)، مقارنة بالانتماء التقليدي الذي يبنى عبر تفاعلات ممتدة؛ وهنا تظهر المخاطر ممثلة بفقدان التنوع الفكري، حيث يُقصى الرأي المعارض تلقائياً.

وفي مجال المفاضلات يظهر الشعور بالانتماء الفوري مقابل فقدان الاستقلالية؛ مع ملاحظة ارتفاع “التأكيد التحيزي” بنسبة 40% في المنصات.

أما المخاطر فتتولد من خلال الضغط الاجتماعي غير المرئي، وهو مايدفع المتلقي لتبني آراء غير مدروسة خوفاً من “الإلغاء الرقمي”.

العمل

الآن: قبل اللايك، اسأل: “هل هذا تعبير عني أم عن الجماعة؟”

قريب المدى: انضم إلى مجموعات تفكر نقدياً خارج المنصات الكبرى.

لاحقاً: طور هوية رقمية تركز على الجودة لا الكمية، بتتبع تفاعلاتك أسبوعياً.

هل يبني اللايك جسوراً أم يحفر حفراً تحت الهوية؟

الخوارزميات: من يقرر حبنا؟

تفكك الخوارزميات ترتيب المحتوى بناءً على تفاعلات سابقة، محولة “حبك” الرقمي إلى مسار موجه يقصي 90% من المنشورات غير الشائعة، مقارنة بالإعلام التقليدي حيث يختار المحرر شفافاً.

وتعمل الخوارزميات عبر التعلم الآلي الذي يفضل التفاعل العالي، ما يولد فقاعة تأكيدية تضعف النقاش (70% من مستخدمي فيسبوك يرون آراء متشابهة)، مع مخاطر فقدان الاختيار الحر وإعادة تشكيل الوعي تدريجياً.

صناعة اللايكات: إعلام التريند

في زمن المنصات لم يعد الإعلام يُنتج محتواه للجمهور، بل للخوارزميات. فقد تحوّل سباق اللايكات إلى معيار خفي يعيد تشكيل غرف الأخبار، ويقودها نحو ما يضمن الانتشار لا ما يضمن المعرفة. هكذا صعدت “صحافة التريند” على حساب الصحافة المعرفية، وتراجع العمق أمام الخفة، والتحليل أمام الإثارة، والبحث أمام اللحظة. ومع هذا التحول، بدأ المجال العام يفقد إحدى أهم وظائفه: إنتاج نقاش عقلاني يرفع الوعي ويثري الفهم.

في قلب هذه التحولات تقف المنصات الرقمية، لا بوصفها وسيطاً محايداً، بل كـ”مختبرات سلوكية” تعمل وفق منطق A/B Testing، حيث يُختبر المستخدم كما تُختبر المنتجات. كل زر، كل لون، كل ترتيب للمحتوى، كل إشعار… ليس عفوياً، بل نتيجة آلاف التجارب التي تهدف إلى شيء واحد: إبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة داخل المنصة. نحن لسنا جمهوراً في نظر هذه الشركات، بل “كائنات قابلة للضبط”، تُقاس ردود أفعالنا وتُعاد هندستها باستمرار لتعزيز الإدمان، وتوجيه الانتباه، وصناعة السلوك.

هل “اللايك” قرار بشري أم استجابة لـ”هندسة السلوك”؟ 

في لحظة الضغط، نستجيب لتصميم مدروس يحفز الإدمان.

بهذا المعنى، يصبح اللايك أكثر من مجرد تفاعل؛ إنه أداة ضبط اجتماعي ونفسي، تُعيد تشكيل ما نراه، وما نعتقده، وما نرغب فيه. ومع كل دفعة صغيرة من الدوبامين الرقمي، تتآكل مساحة الحرية الفردية لصالح تصميمات خوارزمية تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. وحين يصبح الإعلام تابعاً لهذه المنظومة، يفقد دوره كسلطة معرفية، ويتحول إلى جزء من ماكينة ضخمة تُنتج محتوى سريعاً، متقلباً، ومصمماً للانتشار لا للمعنى.

ليس “إعلام التريند” مجرد ظاهرة إعلامية، بل هو تحوّل ثقافي عميق يعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة وبالذات وبالفضاء العام. وما لم نواجه هذا المنطق بوعي نقدي، سنجد أنفسنا نعيش في عالم تُحدد فيه الخوارزميات ما نقرأ، وما نحب، وما نعتقد… وربما ما نصبح.

مقاومة التصفيق تبدأ بعقل يفضّل الحقيقة على الإشادة الرخيصة فهل تضغط الزرّ، أم تختار الوعي؟
Leave a Comment
آخر الأخبار