من الإدمان التقليدي إلى “وحش المختبرات الصناعية”!.. المخدرات وباء العصر المتطور

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية- إلهام عثمان:

في السادس والعشرين من حزيران من كل عام، لا يمر اليوم الدولي لمكافحة المخدرات مرور الكرام، بل يتجدد معه نداء عالمي لمواجهة وباء صامت يفتك بالمجتمعات، إنه ليس مجرد تاريخ في التقويم، بل صرخةٌ ملحة لتعزيز العمل والتعاون ضد آفة تعيد تشكيل وجهها مع كل تطور علمي، لتقدم لنا وحشاً جديداً بوجه جديد “المخدرات الصناعية”، ففي مواجهة هذا العدو الخفي، الذي يتلون ويتطور في مختبرات الظلام، هل نحن مستعدون حقاً لمواجهة هذا الوباء المتجدد، وكيف يمكننا تحصين مجتمعاتنا قبل أن يبتلعها هذا الوحش الصامت؟

من الواقع المؤلم

انجرف وسيم.ع، شاب مراهق ذو الـ 29 عاماً، نحو تعاطي المخدرات بدافع الفضول وتأثير رفاق السوء، بدأ الأمر بتجربة بسيطة، سرعان ما تحولت إلى إدمان أثر على دراسته وعلاقته بأسرته، ليجد نفسه منعزلاً في دوامة من التقلبات المزاجية والبحث المستمر عن المال وبالتالي سرقة الأهل.

سليم: المخدرات الصناعية تباع تحت أسماء تبدو بريئة أو كمنتجات قانونية أو كبدائل آمنة لتضليل المستخدمين

بعد سنوات من الإدمان على المخدرات المصنعة، فقد نور وظيفته وتدهورت صحته الجسدية والنفسية بشكل كبير، وأصبح يعيش في عزلة تامة، وكان يعاني من الهلوسة والأرق المزمن، وتحولت حياته إلى صراع يومي مع الحاجة للمخدر، مما هدد بتفكك أسرته وطلاق زوجته.

دوافع متعددة

يوضح الدكتور يوسف سليم اختصاصي في علم الأدوية والسموم من خلال حوار مع صحيفتنا ” الحرية”، أن الدوافع التي تقف وراء إنجراف الأفراد نحو عالم المخدرات تتعدد وتتشابك؛ فمنهم من يبحث عن تغيير في الحالة المزاجية، أو يرى فيها تسلية وموضة، أو حتى جزءاً من حياته الاجتماعية فيما يُعرف بـ”الاستعمال الترفيهي”، مضيفاً: إن الفضول أو تأثير الأصدقاء أو محاولة الهروب من الملل والهموم هو الشرارة الأولى.

من جهتها بينت أ. د أماني حسون، اختصاصية التنمية البشرية والاستشارات النفسية والأسرية، أن انتشار المخدرات لا يقتصر على الدوافع الفردية، بل يتجذر في أسباب مجتمعية أعمق. وتُحدد أبرز هذه الأسباب في ضعف الرادع الديني والقيمي، رفقاء السوء، البطالة والفراغ، وقلة الفرح والإحباط التي تدفع للهروب، بالإضافة إلى غياب الرقابة الأسرية وسوء العلاقات داخل الأسرة، مع انتشار شبكات الترويج وضعف الرقابة عليها، مع الجهل بمخاطرها واستخدامها كوسيلة للتسلية وخاصة المراهقين.

الاستعمال المزمن

ويحذر د.سليم من أن الخطر يزداد تعقيداً عندما يلجأ البعض إلى “الاستعمال المتزامن لعدة مخدرات”، وهو مزيج قد يكون قاتلاً نظراً لتضاعف التأثيرات والآثار الجانبية، هذا يشمل خلط المخدرات المحظورة بمواد أخرى كالكحول أو الأدوية، على سبيل المثال، تعاطي الكحول مع الكوكايين يُضاعف من خطر عدم انتظام ضربات القلب والأزمات القلبية، وقد يصل الأمر إلى الوفاة.

أنواع السموم

كما يضيف سليم أن هناك أنواعاً عدة للمخدرات منها، المخدرات الطبيعية كالحشيش، الأفيون، القات، والكوكا- لكن أخطرها المخدرات المصنعة مثل المورفين، الهيروين، الكودايين، السيدول، الديوكامفين، الكوكايين، والكراك- أما المخدرات التخليقية (الصناعية) فتشمل عقاقير الهلوسة، المنشطات، المنبهات، والمهدئات.

وحش المختبرات المتطور

وهنا يحذر سليم من أن التحدي الأكبر اليوم يكمن في المخدرات الصناعية ويصفها بـ(وحش المختبرات المتطور)، المعروفة أيضاً بالمواد ذات التأثير النفساني الجديد (NPS)، ويوضح أن هذه المواد هي مواد كيميائية تُصنع “بالكامل” في المختبرات ، على عكس نظيراتها الطبيعية المستخلصة من النباتات.

مخاطرها

ويشير سليم إلى أن أبرز خصائص ومخاطر المخدرات الصناعية، يكمن في تصنعها من مواد كيميائية متنوعة، حيث يجري تعديلها بشكل “مستمر”، فيعدل تركيبها الجزيئي باستمرار لتجنب القوانين القائمة، ما يجعلها تظهر كـ”مواد جديدة” غير محظورة بعد، ويُصعّب على السلطات تتبعها وحظرها، مضيفاً أنه غالباً ما تكون هذه المخدرات أقوى وأخطر بكثير من التقليدية، وبما أنها لم تخضع لدراسات سريرية، فإن تأثيراتها على الجسم والدماغ تكون غير متوقعة، وقد تؤدي بسهولة إلى جرعات زائدة مميتة أو مشاكل صحية ونفسية حادة.

تسويق مضلل

وكشف سليم أن المخدرات الصناعية قد تباع غالباً تحت أسماء تبدو بريئة أو كمنتجات قانونية أو كبدائل آمنة، مثل أملاح الاستحمام”، أو البخور العشبي، أو منظفات المجاري، وذلك لتضليل المستخدمين.

حسون: المتعاطي ينعزل عن المحيطين و يظهر عدوانية وسرعة غضب من دون مبرر و يلجأ للمراوغة والكذب

وعن أبرز المخدرات الصناعية و الأكثر خطورة حسب رأي سليم، هناك القنب الصناعي (سبايس/K2) الذي يُحاكي تأثيرات القنب الطبيعي، لكنه أقوى بكثير ويسبب هلوسة ونوبات صرع ومشاكل قلبية حادة، أما الكاثينونات الصناعية أي أملاح الاستحمام فهي تحاكي المنشطات كالكوكايين، وتسبب الهياج والعدوانية، أما المواد الأفيونية الصناعية (الفنتانيل ومشتقاته) تعدّ شديدة الخطورة، فهي أقوى بآلاف المرات من المورفين

و يشير سليم إلى أنها تعد السبب الرئيس للوفيات الناتجة عن الجرعات الزائدة في العديد من الدول، وهنا يضيف أن الفينيثيلامينات تشمل مواد تحاكي تأثيرات المهلوسات مثل MDMA، كما أن البنزوديازيبينات الصناعية تحاكي المهدئات، لكن.. بجرعات غير معروفة وخطيرة.

من يدفع الثمن؟

في السياق ذاته توضح حسون أن أضرار المخدرات تعدّ ثمناً باهظاً يدفعه الفرد والمجتمع معاً، فهي لا تقتصر على المتعاطي بل تمتد لتُدمر نسيج المجتمع.

فعلى الصعيد الفردي، تُدمر المخدرات الجهاز العصبي، وتُضعف الذاكرة والتركيز، وتُسبب الانعزال الاجتماعي والتقلبات المزاجية الحادة، وفقدان الطموح، كما أنها تزيد احتمال الإصابة بأمراض نفسية كالقلق والاكتئاب والهلوسة.

أما على صعيد المجتمع، فتُسهم المخدرات في ارتفاع معدلات الجرائم (كالسرقة والعنف والقتل)، وزيادة نسبة البطالة والفقر، كما تؤدي إلى انهيار وتفكك الأسر والعلاقات العائلية، وتهدد الأمن العام والاستقرار الاجتماعي.

علامات تحذيرية

وعن سلوكيات المدمن والعلامات التحذيرية التي لا يمكن تجاهلها، تقدم حسون وصفاً دقيقاً لسلوكيات المتعاطي، كاشفةً عن علامات تحذيرية يجب الانتباه إليها، وهي أن المتعاطي ينعزل عن المحيطين، ويظهر عدوانية وسرعة غضب من دون مبرر، كما قد يلجأ للمراوغة والكذب المستمر لإخفاء تعاطيه، ويطلب المال بشكل مستمر ومتكرر وقد يصل إلى السرقة، كما يتدهور مظهره العام ونظافته الشخصية، ويعاني قلة التركيز واضطرابات النوم لساعات طويلة أو أرقاً مزمناً.

ما قبل الميلاد

ويشير سليم إلى أن المخدرات لم تكن وليدة العصر؛ فقد استخدم القنب منذ 4000 سنة قبل الميلاد في آسيا، وتوصل طبيب عربي إلى أن استخدام نبات الخشخاش يساعد على النوم وهو مزيل للألم.

إذا استطعت الإقلاع!

ورغم تعقيد المشكلة، تبقى الحقيقة أن “معرفة الحقائق من شأنها أن تساعد على التعامل مع المشكلات الناجمة عن المخدرات”، وللراغبين في التغيير، يقال: “إذا استطعت الإقلاع عنه ليوم واحد، فستتمكن من الإقلاع عنه مدى الحياة”.

وفي سياق مكافحة هذه الآفة، تبرز تجربة البرتغال كنموذج فريد؛ فبعد أن كانت من الدول التي تعاني من ارتفاع معدلات التعاطي، أصبحت تُصنف ضمن أقل الدول تعاطياً للمخدرات بفضل سياستها التي تعتمد على تجريم التعاطي بكميات كبيرة، والتركيز على العلاج والحد من الضرر بدلاً من التجريم الصارم للمتعاطين.

حجم الكارثة بأرقام عالمية

كما يُشير سليم إلى أنّ حجم المشكلة عالمياً يُنذر بالخطر؛ فوفقاً لتقرير المخدرات العالمي 2023 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، والذي يغطي بيانات عام 2021، بلغ عدد متعاطي المخدرات حوالي 296 مليون شخص، منهم 39.5 مليون يعانون اضطرابات تعاطي المخدرات، وتشير التقديرات إلى وفاة نحو 500 ألف شخص بسبب هذه الاضطرابات.

وفي الختام، تشدد حسون على أن الإدمان ليس مجرد حالة مرضية فردية، بل هو تهديد جماعي يبدأ بتجربة أو فضول وينتهي بضياع حياة كاملة، لذا تُصبح الوقاية ضرورة قصوى عبر الوعي المستمر، وتدعو لتعزيز الرقابة الأسرية، وترسيخ القيم الدينية والاجتماعية، وتوفير الدعم النفسي والعلاجي كأهم الوسائل لمواجهة هذه الآفة الخطيرة، فمستقبلنا الحقيقي يكمن في حماية أولادنا وشبابنا.

Leave a Comment
آخر الأخبار