الحرية – آلاء هشام عقدة :
بعد سنوات طويلة من العزلة الاقتصادية والعقوبات الواسعة، تبدو سوريا اليوم أمام منعطف تاريخي يتمثل في العودة التدريجية إلى الاقتصاد العالمي، بعد سقوط منظومة فساد حكمت البلاد لعشرات السنين وعرقلت المسارات الإصلاحية والتنموية، كان أكبر دليل على ذلك تشوه العدالة في آليات إعادة توزيع الدخل وارتفاع معدلات الفقر، حيث تراكمت ثروات قلة من مستنفعيها وسماسرتها على حساب مستقبل ملايين السوريين.
الخبير الاقتصادي الدكتور فراس حداد بينّ لـ” الحرية” أنه مع عام 2025، وبعد سقوط الديكتاتورية، بدأت المؤشرات تتراكم نحو مرحلة جديدة أكثر وضوحًا اقتصادياً، تقوم على الانفتاح وإعادة بناء الثقة مع المؤسسات المالية الدولية.
عودة الاهتمام الدولي بسوريا
وأضاف حداد أن صندوق النقد الدولي عاد للواجهة في شهر آذار 2025، إذ صرّحت السيدة كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، بأن سوريا بدأت فعلياً خطوات عملية للتحضير لاندماجها المالي والاقتصادي، وخلال اجتماعات الخريف لصندوق النقد، أكدت جورجيفا أن الصندوق سيقدّم النصائح الفنية اللازمة للانتقال لمرحلة مشاورات المادة الرابعة، في خطوة تُعدّ تطورًا لافتًا في طريقة التعامل مع الملف السوري.
وتوصلت الخطوات حاليًا إلى تعيين مندوب دائم لصندوق النقد الدولي في دمشق، مهمته الإشراف على عملية الاندماج ومتابعة الإصلاحات من داخل سوريا، وهو ما يضع البلاد مجددًا ضمن خريطة المؤسسات المالية العالمية.
عودة التعاون مع البنك الدولي… وتسديد المستحقات
وأوضح د. حداد لم يكن صندوق النقد الدولي وحده في المشهد، فقد عاد البنك الدولي للعمل مع سوريا بعد تسديد جزء من المستحقات المتراكمة عبر دعم مباشر من كل من المملكة العربية السعودية وقطر، وبدأت سوريا الاستفادة من منح دولية جديدة، كان أولها المنحة الخاصة بقطاع الكهرباء في حزيران الماضي، والتي شكّلت إشارة واضحة لاستعادة القنوات التمويلية الرسمية.
إصلاحات محلية… شرط أساسي للاندماج
ويشير حداد إلى أنه رغم حماسة المؤسسات الدولية، يبقى على سوريا أن تقدّم خطة اقتصادية محكمة تراعي خصوصيتها ، فالمؤسسات الدولية، رغم خبرتها، لا تمتلك المعرفة الدقيقة بتفاصيل الاقتصاد السوري كما يمتلكها الخبراء المحليون لذلك، فإن نجاح الاندماج يتطلب الجمع بين نصائح الخارج وخبرة الداخل، والاتجاه نحو التخطيط الاستشرافي لوضع خطة مستقبلية تعزز دخل الأسر وتحقق الاستقرار الاقتصادي.
وفي هذا السياق، بدأت سوريا بالفعل سلسلة من الإصلاحات الجوهرية لإعادة الاندماج، أبرزها:
-إصلاح النظام الضريبي وتوحيد مجموعة من الضرائب ضمن ضريبة واحدة بهدف تبسيط النظام وتقليل الفجوات التي كانت تشكّل بيئة للفساد.
.- إصلاح القطاع المصرفي ومنح صلاحيات أوسع للبنك المركزي فيما يتعلق باستقرار سعر الصرف، إدارة السيولة، وإعادة هيكلة المصارف بما ينسجم مع متطلبات مجموعة العمل المالي الدولية (FATF).
– مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وضع إجراءات جديدة تؤهل البلاد للخروج من القائمة الرمادية، خاصة بعد إعادة تفعيل دخول سورية في نظام SWIFT العالمي.
– إعادة تنظيم السوق المالية ورفع القيود تمهيدًا لاستقبال الاستثمارات الأجنبية وتشغيل دورة رأس المال بشكل مستقر وشفاف.
تحولات سياسية وقانونية… العقوبات في طريقها للتراجع
شهد العام الأخير تحولات غير مسبوقة، كان أبرزها إزالة مجموعة من العقوبات الجوهرية عن سورية وبدء تجميد قانون قيصر تمهيدًا لإلغائه، مع مناقشات جدّية داخل الكونغرس الأمريكي حول الإلغاء الكامل، هذه التطورات تعيد فتح الباب أمام سورية للدخول من جديد إلى النظام المالي العالمي، وتشكل عاملًا محفزا لإعادة الإعمار وتنشيط القطاعات الاقتصادية.
وفي قراءة لهذه التطورات، قال د. فراس إن دخول سورية في مسار الاندماج ضمن الاقتصاد العالمي يشكل تحولًا بنيويًا لا يمكن التقليل من أهميته، فالمسألة لا تتعلق فقط برفع العقوبات أو استئناف العلاقات مع المؤسسات المالية، بل بإعادة بناء نموذج اقتصادي يقوم على الشفافية واستعادة الثقة، وتحقيق العدالة في توزيع الدخل. الإصلاح الحقيقي لا ينجح ما لم يُرافقه تحسين ملموس في معيشة المواطن ورفع دخل الأسر.
وأضاف حداد: التعاون مع صندوق النقد والبنك الدولي يمنح سورية فرصة نادرة للوصول إلى تمويلات واستثمارات كبرى، لكن النجاح أو الفشل سيُحدَّد داخل سورية نفسها، عبر سياسات جادة، وإدارة رشيدة، وتخطيط استشرافي يضع مصلحة السوريين أولًا.
فرصة للإعمار والنمو
يشكل الانتقال نحو نظام مصرفي ومالي معترف به دوليًا فرصة استثمارية كبيرة، خصوصًا في مرحلة إعادة الإعمار التي تتطلب تمويلات ضخمة للبنية التحتية الحيوية، هذه المرحلة تمهّد لإعادة تفعيل النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات ورفع معدل النمو بعد سنوات من الانكماش الكبير للناتج المحلي.
وفي هذا السياق، يبينّ حدّاد أن فرصة إعادة الإعمار الحالية غير مسبوقة، فهي تسمح لسوريا بإعادة بناء اقتصادها على أسس متينة، تستند إلى الشفافية والحوكمة وإعادة توزيع الدخل بشكل عادل. لكن النجاح الحقيقي لن يتحقق إلّا إذا صاحب هذه العملية حماية اجتماعية حقيقية للأسر السورية، لضمان ألا يتحمل المواطن وحده أعباء الإصلاحات.
ويضيف حدّاد: الاستثمارات التي ستتدفق خلال مرحلة الإعمار يمكن أن تكون محركاً رئيسيًا للنمو، لكن لابد من وضع سياسات واضحة لضمان وصول فوائد هذه الاستثمارات إلى المجتمع بشكل مباشر، وخلق فرص عمل حقيقية تعيد الحياة للقطاعات الإنتاجية.
حماية المجتمع… شرط أساسي للاندماج الاقتصادي
ويضيف حداد أي انفتاح اقتصادي يجب أن يراعي الأسعار الاجتماعية، عبر إنشاء صناديق للبطالة ، ودعم صناديق الفقر وحماية الطبقات الأضعف ، وضمان عدم تحميل المجتمع ثمن الإصلاحات، فالاندماج الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق دون حماية المستوى المعيشي للسوريين ورفع الدخل الحقيقي للأسر.
إن اندماج سوريا في الاقتصاد العالمي عام 2025 ليس مجرد حدث مالي، بل تحول إستراتيجي يعيد البلاد إلى موقعها الطبيعي بعد عقود من العزلة والفساد. وبين خطوات المؤسسات الدولية والإصلاحات الداخلية، تبدو سورية أمام فرصة فريدة لإعادة بناء اقتصادها، شريطة أن تترافق هذه العملية مع رؤية سورية واضحة، توازن بين الانفتاح والحماية الاجتماعية، وتوجّه البلاد نحو مرحلة جديدة من النمو والاستقرار.