الحرية – حسين الإبراهيم:
- ماذا يعني أن يبرع إعلامنا في تشخيص المرض، لكنه يقف عاجزاً عن وصف الدواء؟
- لماذا نغرق في سيل من الأخبار والمقالات التي تثبت لنا أن المستحيل موجود، بينما نندر الأخبار التي تثبت أن هزيمة المستحيل ممكنة؟
- ماذا لو كان السبب أن صحافتنا تحولت من منبر للتغيير إلى منصة للتنفيس؟
هل شعرت يوماً بأنك تغرق في بحر من الأخبار الكارثية؟ عناوين تزمجر بالفساد، تقارير تُفصِّل أزماتنا دون حلول، وتعليقات لا تختلف عن جلسات “التذمر” في المقاهي.
لقد أتقن إعلامنا “تقريع الظلام” – أي وصف المشكلة بتفاصيل مظلمة – لكنه نسي أن الظلمة لا تزول بالكلام عنها، بل بإشعال قنديل يضيء الطريق.
لقد حان الوقت لنسأل: أين بوصلة الإعلام الحقيقي؟ هل مهمته أن يخبرنا بأن الغرفة مظلمة، أم أن يساعدنا في إيجاد مفتاح الكهرباء؟
الإدمان على السلبية.. كيف تخلق “صحافة الشكوى” عقلاً جمعياً عاجزاً
لطالما كانت مهمة الصحافة كشف الخلل، لكن عندما يتحول الكشف إلى حالة دائمة من التذمر والتركيز على الجرح دون الدواء، يتحول الإعلام إلى ما يشبه “آلة للشكوى” الجماعية. وهذا له تأثيره العميق على عقلية المتلقي:
– برمجة العقل على العجز: تكرار عرض المشاكل المستعصية دون حلول يزرع في اللاوعي الجمعي فكرة أن “لا فائدة” أو “فالج لا تعالج”. إنه يخلق ما يشبه “اللدونة العصبية المجتمعية”، حيث تتشكل مسارات عقلية تؤمن بأن التغيير مستحيل.
– تغذية دوامة اليأس: وفقاً لعلوم الدماغ، فإن التعرض المستمر للأخبار السلبية يرفع مستويات هرمون الكورتيزول (هرمون التوتر) لدى الجمهور، ما يزيد من مشاعر القلق والاكتئاب الجماعي، ويقتل الدافع الفردي والجماعي للمبادرة.
– الفعل الوحيد؛ المشاركة في الشكوى: يتحول الجمهور من كائن فاعل إلى كائن متفاعل، حيث يقتصر دوره على مشاركة المقال المتشائم أو إضافة تعليق يزيد من سوداوية المشهد. إنها حلقة مفرغة من “التقريع” لا تنتج سوى مزيد من الظلام.
من ثقافة الشكوى العقيمة إلى صحافة الحلول المنتجة منهج يحول بوصلة الإعلام من مجرد تسليط الضوء على المشكلات إلى إضاءة طريق الحلول العملية.
“إشعال القناديل”.. عندما تنتقل الصحافة من “ماذا” إلى “كيف”
إذا كان “تقريع الظلام” هو وصف المرض، فإن “إشعال القناديل” هو وصف الدواء وتقديمه. هذه هي فلسفة “صحافة الحلول”، التي لا تكتفي بتشخيص الداء، بل تذهب إلى أبعد من ذلك:
التركيز على “كيف” وليس “ماذا” فقط: لا يهم أن نعلن أن “التعليم متدنٍ”. الأهم أن نسأل: “كيف استطاعت مدرسة في قرية نائية تحقيق أعلى نسب نجاح؟” أو “ما هو النموذج الفنلندي الذي قلب موازين التعليم في العالم؟”. الصحافة هنا تقدم إجابة، وليس مجرد سؤال.
تقديم النماذج القابلة للنقل والدراسة: ليس الهدف تقديم “خبر إيجابي” سطحي، بل تقديم تحليل عميق لتجربة ناجحة: ما العوامل التي ساعدت على نجاحها؟ ما التحديات التي واجهتها؟ كيف يمكن تطبيق هذا النموذج في سياقات أخرى؟ إنها تقدم للقارئ ولصانع القرار “خريطة طريق” وليس “خريطة للمشكلة”.
تحويل الجمهور من متلقٍ سلبي إلى شريك فاعل: عندما يرى القارئ أن هناك حلاً ممكناً وقابلاً للتطبيق، ينتقل من حالة اليأس إلى حالة التساؤل: “كيف يمكنني المساهمة؟ هل يمكن تطبيق هذا في حيي؟”. الصحافة هنا تشعل قنديل الأمل والعمل، لا قنديل اللوم والعجز.
نماذج مضيئة.. قناديل في عالم الإعلام
لنضرب بعض الأمثلة العملية على “صحافة القناديل”:
بدلاً من تقرير عن أزمة القمامة: يمكن لإعلام الحلول أن يقدم تحقيقاً عن “كيف تمكنت قرية من تحويل نفاياتها إلى طاقة وسماد، محققةً اكتفاءً ذاتياً ودخلاً إضافياً لأهلها”.
بدلاً من التذمر من ازدحام الطرق: يمكنه عرض تجربة “الشارع الكامل” في إحدى المدن الذي أعاد تخطيط حركة المرور لصالح المشاة ووسائل النقل العام، فانخفضت الازدحامات وتحسنت جودة الحياة.
بدلاً من التخويف من البطالة: يمكنه تسليط الضوء على مبادرات “التدريب الاحترافي” التي تؤهل الشباب لسوق العمل وتخفف من الفجوة بين التعليم ومتطلبات السوق.
إعادة ضبط البوصلة
السؤال اليوم ليس عن أهمية كشف الأخطاء، فهذه مهمة صحفية مقدسة. السؤال هو: ما الهدف من هذا الكشف؟ هل هو هدف وحيد بحد ذاته، أم هو خطوة أولى على طريق التصحيح؟
البوصلة الحقيقية للإعلام ليست في يد من يصرخ ليخبرنا أن السفينة تغرق، بل في يد من يوجهنا نحو مقعد المجذاف، ويظهر لنا كيف استطاعت سفن أخرى أن تعبر النهر. إن التحول من “تقريع الظلام” إلى “إشعال القناديل” ليس ترفاً، بل هو ضرورة وجودية للإعلام الذي يريد أن يبقى على قيد الحياة في عصر اليأس والإحباط.
لنغير السؤال إذن.. لا تسأل “ما المشكلة؟”.. بل ابدأ بسؤال: “ما الحل؟ وكيف نجح؟”. عندها فقط، سنتحول من جمهور يشتكي من الظلام، إلى طاقم يشعل قناديل التغيير.