من خشبة المسرح إلى الدفاع عن كرامة السوريين.. نوار بلبل: أردت أن أنقل رسالة أهلي إلى الغرب وتصحيح الصورة المشوهة للثورة السورية

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

الحرية- حنان علي – جواد ديوب – ميسون شباني:

في عالم الفن المسرحي، حيث يتمازج الواقع بالحلم، يسطع نجم نوّار بلبل كقامة مبدعة تتنفس جرأة. وريث “شيخ الكار” السوري فرحان بلبل، اتخذ من الخشبة موطنًا، فذابت في روحه فواصل الأدوار، وتوحد مع قيمه.

يقتنص نوار أوجاع الخيبة وآمال الثورة، ويعيد صياغتها على المسرح بلغة نبض الشارع، مثيراً الجدل حول الاستبداد والتحرر، ويروي حكايات الأسرى والنازحين، ويعبر عن معاناة وطنه بلغة فنية تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ.

رحلة ليست مسيرة فردية، بل تجسيد لروح شعب يتوق إلى الحرية والكرامة.

صحيفتنا الحرية التقت بالمسرحي السوري “المشاكس” نوار بلبل وأجرت الحوار التالي

طفولة فوق خشبة المسرح

•  كيف كان تأثير الراحل والدك فرحان بلبل على شخصيتك وتالياً على مسيرتك كفنان؟ هل اتكأت بشكل أو بآخر على شهرته وإرثه؟ هل كان ناصحاً ومرشداً فنياً لك أم “منافساً” حاولت الخروج من عباءته؟

أنا ابن المسرح وقضيت طفولتي محاطاً بالديكورات والإكسسوارات

نشأتُ فوق خشبة المسرح العمالي. أنا ابن المسرح، والخشبة ليست غريبة عني، بل جزء لا يتجزأ من كياني. قضيت طفولتي محاطاً بالديكورات والإكسسوارات بأجواء لعب طفولي إيجابي، متميزة عن ألعاب أولاد حارتي. لاحقاً، تعلمت أن المسرح هو المكان الذي يمكنني فيه قول ما لا أستطيع قوله في الحياة.

كان توجه أبي يسارياً، يهدف عبر المسرح إلى دعم الطبقة العاملة والمظلومين. هذا الإرث أثر في بعمق، لكنني تمردت على أسلوبه واتخذت مساراً متمايزاً. وبعد رفض استمر سنتين التحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 1994، بعدها استفدت كثيراً من الفترة الذهبية للمعهد، بفضل عميده صلحي الوادي والأساتذة المدرسين مثل الفنان العالمي غسان مسعود والخبراء الروس.

اختلفت مع أبي المعارض للمسرحَ المحكي، والذي يرى أن اللغة الفصحى هي لغة المسرح، مؤمناً بأنه كي أشبه الناس، عليّ التحدث بلغتهم. إن نقل اللغة المحكية إلى الخشبة لا يقلل من أهمية المسرح.

علّمني المسرح أن أقول ما لا يمكن قوله في الحياة

بعد التخرج، عملت مع فرقة مسرح رصيف، وقدمت عروضاً مع فنانين كبار. كان هناك شكلان من المسرح السوري: المسرح القومي الجاف البعيد عن الشارع، ومسرح (أبو عنتر وياسين بقوش) ذو الجمهور العريض. بدأت محاولتي لدمج المسرحين، لست ضد الفصحى، لكنني أردت إيصال أفكاري للشباب عبر تحقيق المعادلة بين الجمهورين. تعاونت مع الفنان رامز الأسود لتغيير شكل المسرح، بتقديم المتعة والفائدة لجذب جمهور مختلف. بعدها تابعت المسيرة وحدي، وقدمت عروضاً حازت على جوائز عالمية.

من المسرح السوري إلى العالمية: بحث عن الهوية والجمهور

•  بعد الثورة السورية، وجد العديد من الفنانين والمسرحيين أنفسهم في الشتات، يواجهون تحديات جديدة تتعلق بالهوية، والتمويل، والجمهور.

من وجهة نظرك وتجربتك ماهي التحديات التي تواجه المسرحيين السوريين في الشتات، وماذا تقترح  للتغلب عليها؟

لطالما واجهتني المعضلة عينها : هل أقدم مسرحاً سورياً خالصاً أم مسرحاً عالمياً؟ في النهاية، اخترت المسرح، مع توجيه عروضي لجمهور أوروبي متنوع. لكن يبقى السؤال: لماذا يعزف السوريون في الخارج عن حضور هذه العروض؟ مالسبب؟

قدمت مسرحية “مولانا” عبر ثمانين عرضاً، بينما جابت “إيغاليتيه” مدناً أوروبية بتمويل شخصي، من دون دعم من أي معارضة أو جهة. لم أكن معارضاً، بل ثائراً، ولا تزال ثورتي مستمرة ضد المستغلين والبراغماتيين. أردت أن أنقل رسالتي ورسالة أهلي إلى الغرب، وأن أصحح الصورة المشوهة للثورة السورية، التي اختزلتها وسائل الإعلام الغربية بـ”داعش”.

خرجتُ من عباءة والدي حين نقلت اللغة المحكية إلى خشبة المسرح

في عمّان، قدمت ثلاثة عروض لملحمة “شكسبير في الزعتري”: “روميو وجولييت” و”سفينة الحب”. بدأت الفكرة بمسرحٍ موجه للأطفال، بهدف اللعب وتغيير المفاهيم، وكانت النتيجة أنني توصلت إلى مفهوم “أكون أو لا أكون”. دخلت المخيمات لأعرف واقع أهلنا، ثم أطلقت شرارة المشروع، حيث أضفتُ عبق المسرح الكلاسيكي إلى المكان، وهو ما أثار حفيظة أحد الصحفيين البريطانيين الذي اعتبر أن شكسبير مكانه في القصور وليس في المخيمات. فردي كان أن شكسبير يجب أن يُعرض في الأماكن التي تمس حياة الناس. نتيجة لهذا التأثير، تواصل معي مسرح “الغلوب” البريطاني، وعرض عليّ إكسسوارات شكسبير مجاناً، مع تغطية إعلامية واسعة، ما أدى إلى تصعيد الأمور، ووصولي إلى قرار الطرد من الأردن بعد ثاني عرض في مخيم الزعتري.

أما عرض “روميو وجولييت”، فقد سلط الضوء على المناطق المحاصرة في سوريا، التي تكاد تكون خارج نطاق الهواء. جسدت روميو في عمّان، بينما كانت جولييت في حمص، وتواصلت عبر السكايب. سُجل هذا العرض في المكتبة الوطنية البريطانية، كأول عرض من نوعه في العالم، وكانت شاشة سكايب تمثل الشرفة الشهيرة. كانت تجربة فريدة من نوعها، بممثلين وجمهور بين حمص وعمان. ورغم أن النص الأصلي ينتهي بالموت، قررت أن أغير النهاية، فالموت طوقنا طويلاً، وحان وقت الحياة.

لم أكن معارضاً، بل ثائرٌ، ولا تزال ثورتي مستمرة ضد المستغلين والبراغماتيين

أما العرض الثالث، فكان في دار لجرحى سوريين من النساء، والأطفال، والشباب، قدم على سطح الدار بديكورات بسيطة تعكس روح المكان، وكان له تأثير إنساني عميق.

•  عرض سفينة الحب، هل كانت رحلة لجوء مسرحية؟

تحكي المسرحية قصة فرقة مسرحية سورية تمثل كافة أطياف المجتمع، لكنها تشتتت بسبب الحرب. بعد خمس سنوات، اجتمع أعضاؤها على متن سفينة، وقرروا الهجرة إلى أوروبا وإعادة إحياء الفرقة هناك. استلهمت القصة من فرقة والدي، فرقة المسرح العمالي في حمص، وقدمت شخصية الراوي الذي يتحدث عن الفرقة قبل الثورة.

في قلب المركز الثقافي الفرنسي بعمان، داخل صالة فسيحة يتوسطها مركب شامخ، انطلقت رحلة مسرحية آسرة. الجمهور يلتف حول المركب، يشهد ولادة عوالم وشخصيات من عمالقة الأدب العالمي.

من على شواطئ اليونان، بزغ مشهد من مسرحية “الفرسان” لأريستوفان، نص عمره 2500 عام نقله لنا الزميل الأردني نبيل خطيب، حين يواجه الملك نبوءة التنحي بسؤاله المغرور: “من أنتم؟”.

دفعت ثمن مواقفي الكثير من الخسائر، لكنني لن أتراجع، فهذه معركتي في الحياة وسأظل أقاتل من أجل مبادئي

المركب تابع إبحاره نحو إيطاليا تلتها إسبانيا، حيث أطل “دون كيشوت” ثيربانتس. ثم حط المركب في فرنسا، ليجسد “تارتوف” لموليير معاناة المغتصبات في السجون وتداعياتها المؤلمة عليهن من قبل المجتمع.

في ألمانيا، تعمقنا مع “فاوست”. ومع دخول الغريب، هوت سوريا في مشهد مؤثر. عاصفة هوجاء تضرب ستة ممثلين، لينطلقوا في أداء مؤثر لمشهد الملك لير “هبي يا رياح العاصفة”. عد تنازلي درامي 6-5-4-3-2-1، وغرق المركب، تتناثر الإكسسوارات، ويبقى الجمال شاهداً على الفن الخالد.

كرامة السوريين: خط أحمر

•  شاعت في فترة ما تكتلات بين الفنانين ونوع من الضغائن والشتائم.. كيف برأيك يمكن للجمهور من متابعينكم أن يتعلموا الغفران في وقت يرون فيه فنانيهم يتبادلون التهم والتشويه؟!

ليس من دواعي غايتي أن أُشعل غضبي أو أستنجد بالشتائم، إلّا لمواجهة التعدي على كرامة الشعب السوري أو استغلال معاناة الناس

ليس من طبيعتي أن أثير الغضب أو أتعمد استخدام الكلمات الجارحة، إلّا عندما أجد نفسي أمام انتهاك لكرامة الشعب السوري أو استغلال لمعاناة الناس. ما يؤرقني حقاً هو أن تُساء سمعة شعبنا، فهذه المسألة تتجاوز شخصي، فهي تتعلق بمبادئي وقناعتي أن الفنان المسؤول هو الذي يلتزم دائماً بالشرف والأخلاق. لن أتوانى عن التعبير عن غضبي حينما يمس كرامة السوريين، فهي خط أحمر بالنسبة لي، وثورتنا انطلقت أساساً للدفاع عنها ورفع شأنها.

سأضرب مثلاً محمد قبنض، لم أشتمه ليس لأنه مدح النظام البائد أو مجّده، وإنما لأنه استغل حاجة الناس من أجل لقمة العيش. كذلك موقفي من سلاف فواخرجي، فلا علاقة لي إن كانت تمجد الأسد أم لا، ما ساءني أنها أساءت للشعب السوري.

دعوني أشارككم حادثتين أفقدتاني صوابي؛ أولهما كانت أثناء تصوير مسلسل “لا مكان لا زمان” في سوريا مؤخراً، رأيت بعيني كيف يُميز بين الممثلين السوريين والكومبارس، ممن لم يُمنحوا إلا وجبة واحدة طوال النهار. لم أستطع تحمل ذلك، وهددت بتوقف التصوير حتى يحصلوا على حقهم بالطعام. في النهاية، علينا دائماً أن نطالب بالحق، وأن نكون صوت من لا صوت له.

لا أطلب أن نحب بعضنا البعض بقدر ما أناشد الاحترام المتبادل. مهمتي هي إعادة ما هدر من كرامة السوريين

في برلين، وخلال دعوتي للتكريم خلال حفل للصديق وصفي معصراني، ثار جنوني عندما طلب مسؤول الأمن من الجمهور السوري أن “يخرسوا” بعد إثارتهم بلبلة وضجيجاً في المسرح. رفضت هذا الإهانة، وأصررت على اعتذار الشخص من الجمهور، وانتهت الواقعة بالاعتذار.

لا أطلب أن نحب بعضنا البعض، لكني أطلب الاحترام المتبادل، وأجد أن مهمتي هي إعادة كرامة السوري.

إبداع سوريّ رغم قيود الرقابة

* ثقافة اللجوء تحولت إلى اتفاق أن الإنسان والمسرح يعيشان في أقسى الظروف وتجلى ذلك في عروض مسرحية عدة، في الظروف الحالية كيف ترى مستقبل المسرح القادم؟

مشروعي القادم يدعو إلى كشف الخطاب المُستتر داخل البيوت إلى المسرح ليس لفضح النفاق، بل للمصارحة والمراجعة الذاتية

فكرت بإمكانية إعادة تقديم عرضي مولانا وإيغاليتيه في دمشق، وطرحت ذلك على وزير الثقافة الذي أكد أهمية عرضهما على مسارحنا، ولكن ثمة تحفظات تتعلق بالسقف العالي ورقابة الحكومة الجديدة.

منذ عام 2017، وأنا أواجه سلطات ثلاثاً: اجتماعية، دينية، وسياسية، وكلها تفرض قيوداً على الإبداع. وشخصية عادل في “إيغاليتيه” تجسد الصراع مع تلك السلطات وهو ما مهد لانفجار الثورة، أعتبر “إيغاليتيه” جذر الثورة السورية.

مشروعي يحث الجميع على الشعور بالخجل من الذات، والتعرف إلى بعضنا بعيون أكثر انفتاحاً وصدقاً

ومع ذلك، يظل إنساننا السوري مبدعاً رغم كل شيء، وإذا تخلصنا من هذه القيود، – أؤمن أن الإبداع سيصبح أكثر روحانية. أذكر أن تنظيم داعش أصدر قراراً بقتلي بعد دعواتي للديمقراطية والحرية، ودفعت ثمن مواقفي الكثير من الخسائر، لكنني لن أتراجع، فهذه معركتي في الحياة وسأظل أقاتل من أجل مبادئي.

دعوة للمصارحة ومراجعة الذات

•  ما هو مشروع نوار بلبل القادم في سوريا؟

المشروع القادم يحمل رمزية عميقة: عودة “المركب” من ألمانيا إلى سوريا، محملًا بأطفال يمثلون الجيل الجديد. هذه العودة ليست مجرد جولة جغرافية، بل هي رحلة مواجهة مع الذات والمجتمع.

الأمل معقود على الجيل الجديد، الذي يمثل بذرة التغيير

الفكرة الأساسية تتمحور حول نقد اجتماعي لاذع لحالة النفاق التي تسود المجتمع، حيث ترفع شعارات الحب والتسامح بينما تخفي خطاباً مستتراً مليئاً بالتحيزات تجاه “الآخر”. مشروعي يدعو إلى كشف هذا الخطاب الخفي الموجود داخل البيوت، وإخراجه إلى العلن، إلى “المسرح”، ليس فضح النفاق، بل هو دعوة إلى المصارحة والمراجعة الذاتية. المشروع يحث الجميع على الشعور بالخجل من الذات، والبدء بالتعرف إلى بعضنا بعيون أكثر انفتاحاً وصدقاً. الأمل معقود على الجيل الجديد، “الأولاد”، الذين يمثلون بذرة التغيير.

Leave a Comment
آخر الأخبار