الحرية -لبنى شاكر:
تقول الحكاية المُتداولة إن~ ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية ارتدت فستاناً من البروكار في حفل زفافها عام 1947. وعلى أن هذا الكلام ربما لا يكون صحيحاً أو دقيقاً تماماً، إلّا أنّ هناك الكثير مما هو مُوثّقٌ عن شهرة القماش الدمشقي وانتشاره عالمياً، حتى إنه واحدٌ من أقمشة قليلةٍ جداً، اهتمت بتصوير تفاصيل معركةٍ خاضها القائد “صلاح الدين” ضد المعتدين. ولا تنتهي الدهشة هنا؛ إذ إن الحرفة القائمة على الحرير وخيوط الذهب والفضة، حملت أيضاً رسوماتٍ للجمال والخيام والطيور، تعددت تأويلاتها ومعانيها تبعاً للمراحل الزمنية التي أُنتِجت فيها، وفي سياقها ظهرت حكاياتٌ شعبيةٌ تناولت الصنعة وأدواتها والعائلات التي عملت بها.
تعددت مواضيع النقوش وذهبت إلى أفكارٍ وخيالاتٍ مُتباعدة، منها نسيجٌ يحمل رسوماً هندسيةً نجميةً غايةً في الدقة والإتقان
دلالات النقوش
يعود الباحث في التراث محمد فياض الفياض في بحثٍ مطوّلٍ له بعنوان “المدرسة الدمشقية وجذورها التاريخية المتأصلة في إنتاج الحرير وصناعته التقليدية” إلى دلالات النقوش التي حملها البروكار، منها القمر والنجم تعبيراً عن التقرب من الإله، إلى جانب الزهرة كرمزٍ للخصب والبداية والنشوء، والفراشة أملاً بالربيع والحياة المليئة بالحب والعنفوان، ومنها أيضاً ما يتعلق برحلات الصيد، وما فيها من مشقةٍ ومتعةٍ، على أن هذا الرسم يجسد حياة اللهو في المجتمعات السابقة.
تعددت مواضيع النقوش وذهبت إلى أفكارٍ وخيالاتٍ مُتباعدة، منها نسيجٌ يحمل رسوماً هندسيةً نجميةً غايةً في الدقة والإتقان، يعتقد البعض بأن هذا النوع كان مزدهراً إبان حكم الدولة الأموية، وهي تشير إلى حياة الرتابة والقوة، ويقال لها أيضاً نقوشٌ عربيّة. وهناك رسومٌ أخرى كما يقول الفياض منها “البندقة، اللوزة، موزاييك، بُخارى، الكرزة، الجمّالة، عاشق ومعشوق، وردة عمر الخيام، الوردة الشامية، زهرة الأفيون، رسمة العبيد، دعسة القطة، ورق اللبلاب، دق الليرة، رسمة الكأس، وردة الربيع، أوراق العنب، الزوارق الفينيقية”.
إذا كان لكل مدينة في العالم شيءٌ من الخاصية والتفرّد، فدمشق تفرّدت في نسيج الحرير
يُضيف الفياض في حديثٍ إلى “الحرية”: “هناك الكثير من النسج التي تحمل آياتٍ قرآنية وأحاديث شريفة وحكماً وأمثالاً وأشعاراً، وكلها تُعبّر عن ظروفٍ اجتماعية خاصة لكل مجتمع وعصر. ولهذه النُسج مستويات مثل بروكار ثلاثة ألوان وربما أربعة أو خمسة وتمامها الألوان السبعة، وقد يُضيف الحرفي الحاذق ما يروق له من خيوط جديدة، كذلك قد يكون النسيج أكثر من سبعة ألوان، وإذا كان لكل مدينة في العالم شيءٌ من الخاصية والتفرد، فدمشق تفرّدت في نسيج الحرير”.
شهرة القماش
بالعودة للحديث عن شهرة البروكار، الذي اقتناه باباوات الفاتيكان يوحنا بولس والبابا بينديكت، يُورد الباحث ما قيل عن اسم “الدمقس” ومعناه نسيج الحرير أو الدّيباج المقصّب والمذهّب، وهو مشتقٌ من اسم مدينة دمشق، حيث نقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتّان فنُسِبَت عندهم إلى المدينة، وقالوا في فعلها Damasser أي عمل ثياباً على النمط الدمشقي، ويستحضر أيضاً ما قاله الرحّالة والمؤرخ ابن عربشاه بأن “الحريريين في دمشق نسجوا لتيمورلنك قباءً من الحرير والذهب ليس له درز فإذا هو شيءٌ عجيب”.
نقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتّان
من المنسيات
اليوم يختلف حال حرفة النسج الحريرية ومن ضمنها البروكار الدمشقي، عمّا كانت عليه سابقاً، ومن المفارقة أنها أصبحت من المنسيات بدل أن تجد عنايةً خاصة كجزءٍ من التراث الثقافي غير المادي، وهي تواجه صعوباتٍ كثيرة أهمها، والكلام للباحث: “عدم وجود مواد أولية تُساعد الحرفة على المنافسة، وغزو المنتج الصناعي رخيص الثمن الأسواق المحلية وخنق الصناعة الوطنية من خلال السماح باستيراد منتجات تقليدية منافسة، ناهيك بزيادة حجم الضرائب والرسوم المفروضة التي أثقلت كاهل العاملين، وساهمت في زيادة أسعار المنتج وكساده في الأسواق المحلية، إلى جانب تعدد مسارات الوصاية بحيث خلقت جواً من التشرذم وغياب المرجعيات الحقيقية”.