من نظرية “ماكلوهان” إلى نموذج الصحافة الذكية: هل الوسيط هو الرسالة؟… إشكالية فصل الجاهزية التقنية عن الجاهزية التحريرية

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

الحرية_ حسين الإبراهيم:

التحرر المعرفي هو قدرة الصحفي أو المؤسسة على إنتاج، تحليل، واستخدام المعرفة بحرية، بمعزل عن الإملاءات الخارجية أو الحدود التقنية، مع امتلاك أدوات تفسيرية تمكّنه من فهم الواقع وتحويله إلى أسئلة واعية لا إلى انطباعات متلقاة.
في مقولته الشهيرة “الوسيط هو الرسالة”، أدرك مارشال ماكلوهان، أن طبيعة الأداة تحدد طبيعة التأويل. لكنها، لم تُفسَّر كما يجب. فلا الوسيط يلغي المحتوى، ولا يعاد تعريف المعلومة بدون تحليل البنية الثقافية التي يحملها الوسيط نفسه.
وهنا تتوضح الرؤية التي لم تُكرر ماكلوهان بل أعادت توليده معرفيًا:

التقنية ليست ناقلًا للمعرفة، بل شريكًا في صياغة معناها. حيث “لا يمكن الوصول إلى حالة معرفية متكاملة بأدوات وتقنيات ضعيفة”، فكل قصور في الوسيط يُقصّر الطريق نحو الفهم، ويُشوّه المعنى قبل أن يُنقل.
“التحرر المعرفي ليس أن تعرف… بل أن تملك أدواتك الخاصة لتفهم وتُفسّر وتُشكّك.”
من خلال خبرتي في “الصحافة الذكية”، أجادل أن الوسيط التقني ـ مهما تطور ـ يظل أداةً صماء دون عقل تحريري يُمكّنه من تحليل الواقع لا نقله فحسب. هنا، نعيد قراءة مقولة ماكلوهان “الوسيط هو الرسالة” عبر نموذج يُدمج التقنية بالفكر النقدي.

• ماذا يعني أن تكون التقنية “شريكًا في صياغة المعرفة” وليس ناقلًا لها؟

قوة الوسيط تكمن في قوة المحتوى

منذ ستينيات القرن الماضي، وضع مارشال ماكلوهان حجر الأساس لفهم جديد لوسائط الإعلام، حين قال إن الوسيط هو الرسالة “The medium is the message” ولكن بينما تلقفت الأوساط الأكاديمية المقولة بوصفها تحوّلًا ثوريًا، خضعت لاحقًا لتأويلٍ سطحيّ تجاهل عناصر مهمة، أبرزها: أن الوسيط، مهما بلغ من قوة، لا يُنتج أثرًا معرفيًا بدون محتوىٍ واعٍ يُحسن استخدامه.
شخصياً، ومن موقع من عاش التحوّل التقني لا من نظر له، أدرك أن الوسيط لا يكفي، ما لم يُرفَق بأداء صحفي يفهم وظائف الوسيط ويعيد تشكيل المحتوى داخله، وإدارة تحريرية منفتحة على التقنية، لا منبهرة بها دون إدراك لمسارات استخدامها المعرفي، ورؤية تحريرية تُخاطب الوسيط بلغة تحلّله، لا لغة تعتقد أنه “يحمل كل شيء وحده”.

السؤال: كيف يتحول الصحفي من “ناقل” إلى “مهندس للمعنى”؟

• كيف يُشوّه الوسيط الضعيف الفهمَ حتى قبل نقل الرسالة؟

مراجعة ماكلوهان؟

لا أرفض المقولة، بل أراجعها عبر تجربتي كمُؤسس لمحتوى تقني في بيئة ضعيفة تقنيًا (سوريا في التسعينيات)، وأعيد تأويلها من منصة تحريرية، حيث حرّرت المحتوى الرقمي بشكل تربوي في “الصحافة الذكية”، و”المهندس الرقمي الصغير”، و”مدونة وطن “esyria.sy، وأضيف إليها بعدًا لم يذكره ماكلوهان وهو:
“الوسيط جزء من الرسالة، فقط إن أدرك الصحفي حدود الأداة وإمكانات بناء المعنى.”

حمل المعنى وتحفيز الذكاء النقدي.

حين نقول إن التقنية أداة للتحرر المعرفي، فإننا لا ننطق بشعار حداثي، بل نضيف لمفهوم مركّب ينبع من تجربتي الصحفية والرقمية. إذ أن المعرفة لا تُنتج بمجرد توافر المحتوى، ولا حتى بمجرد وصوله إلى المتلقي؛ بل تتطلّب وسيطًا تقنيًا يملك القدرة على حمل المعنى وتحفيز الذكاء النقدي.
كل وسيلة لا تملك قدرة تمكين التفكير، هي أداة إسكات وتعمية، لا أداة إيصال.
هذا المفهوم يصبح أكثر حدة ووضوحًا في البيئات الإعلامية الضعيفة تحريريًا، حيث يعاني المحتوى من التكرار، واللغة من الشعبوية، والتحرير من ضياع المنهج. في مثل هذه البيئات، لا يكفي إدخال أدوات جديدة (كالبث الرقمي أو الخوارزميات الذكية)، بل يجب أن يتم ذلك ضمن إطار تحريري معرفي واعٍ.

• كيف يُشوّه الوسيط الضعيف الفهمَ حتى قبل نقل الرسالة؟

مؤشرات “قابلية التقنية للتحرر المعرفي”

1. قدرة الوسيط على حفظ تعقيد المحتوى، والمؤشر هنا هو: هل تسمح التقنية بنقل الأفكار المركبة دون تبسيطها أو تشويهها؟
ونذكر مثالاً: منصات تدعم تحليل البيانات متعددة الطبقات (مثل الخرائط التفاعلية في الصحافة الاستقصائية).
2. دعم التلقي النقدي (لا التلقين)، والمؤشر هنا هو: هل تُصمم الأدوات لتشجيع التحليل والمساءلة أم للتمرير السلبي؟
مثال: أدوات التفكيك البصري للخبر (كربط الفيديو بوثائق مصدرية).
3. مقاومة الشعبوية الرقمية، والؤشر هنا هو: هل تُبنى الخوارزميات لتعميق الفهم أم لتعظيم التفاعل السطحي؟
مثال: خوارزميات توصيل المحتوى التي تُرّوج للتحليل بدلاً من “الإعجابات”.
4. تمكين الصحفي من التفسير (لا الإنتاج السريع)، والمؤشر هنا هو: هل توفر التقنية أدوات لصناعة المعنى (كربط النصوص بالسياق التاريخي)؟
مثال: منصات تدعم الاقتباس الذكي من قواعد البيانات العالمية.

5. المرونة في التكيف مع الرؤية التحريرية، والمؤشر هنا هو: هل يمكن تخصيص الوسيط لخدمة المنهج المعرفي (كدمج الفنون في السرد الصحفي)؟
مثال: استخدام الواقع المعزز لعرض التحقيقات بطريقة سردية غير خطية.

كيف تُقاس هذه المؤشرات؟

من الناحية الكمية تقاس المؤشرات باعتماد نسبة المحتوى التحليلي قياساً بالسطحي على المنصة. وتقاس نوعيًا باعتماد مدى تفاعل الجمهور مع الطبقات العميقة للمحتوى (مثل نقرات “التوسع في القراءة”).

• لماذا تفشل بعض المنصات الرقمية في تحرير المعرفة رغم امتلاكها أحدث الأدوات؟

إذن… “التقنية التحريرية يجب أن تكون كالعدسة المكبرة: تُظهر ما خفي، لا أن تُجمّل ما هو ظاهر.”
هذه المؤشرات تُعيد تعريف “التقنية الناجحة” ليس بالسرعة أو الجمالية، بل بقدرتها على تحرير المعنى من قيود النقل الآلي.

لماذا لا تتحرر المعرفة بدون أدوات قوية؟

هناك أسباب متعددة تعيق تحرر المعرفة، منها: أن المحتوى العميق لا يصل إلا عبر وسيط قادر على حفظ تعقيده، وأن التلقي النقدي يحتاج إلى بنى تقنية تدعم التحليل لا التمرير، وأن المساحة الرقمية الهشة تُغذّي الشعبوية، ما لم تُصمّم لخدمة الوعي، وأن الصحفي بحاجة إلى أدوات ذكية لا لتسريع الإنتاج، بل لتمكين التفسير.
وهكذا، يتحوّل السؤال من: “هل نملك تقنية؟” إلى: “هل نعرف كيف نحرر بها معنىً؟”

الجاهزية التحريرية والجاهزية التقنية

في سياق إعادة قراءة مقولة ماكلوهان “الوسيط هو الرسالة”، نُقارب التقنية بوصفها جزءًا من البنية المعرفية لا مجرد قناة للنقل. لكن لا يمكن للتقنية، مهما بلغ تطورها، أن تُنتج أثرًا معرفيًا إلا إذا توافرت بيئة تحريرية مستعدة للتفاعل معها. وهنا يأتي مفهوم الجاهزية المزدوجة: الجاهزية التحريرية، والجاهزية التقنية.
أولًا: الجاهزية التحريرية
هي قدرة الصحفي والمؤسسة الإعلامية على فهم وظائف الوسيط الجديد وأبعاده الثقافية، والتحرير بمنهج يتجاوز السرد السطحي إلى إنتاج معنى، وإدراك أن كل تطور تقني يحتاج إلى تطوير فكري ومهني في أساليب تقديم المحتوى، وبناء نماذج تحريرية تستثمر التقنية كأداة تفسير وتحليل، لا كقالب جاهز للنشر.
الصحفي غير الجاهز تحريريًا سيستعمل البث الرقمي ليعيد إنتاج التفاهة… بجودة HD فقط.
ثانيًا: الجاهزية التقنية
هي قدرة المنصة على امتلاك أدوات تقنية متطورة وقابلة للتخصيص حسب طبيعة المحتوى، وتدريب الكوادر على الاستخدام الذكي وغير التلقائي للتقنيات، وتطوير الخوارزميات لخدمة التأويل والتحليل بدل التفاعل السطحي، وتأمين بنية تحتية مرنة تسمح بتكامل الوسيط والمضمون.
بدون جاهزية تقنية، يصبح المحتوى الجيد محجوبًا أو منقوصًا في أثره.
ولكي تتحقق مقولة “التقنية أداة للتحرر المعرفي”، لا يكفي أن تكون الأداة موجودة، بل يجب أن تكون مُستوعَبة داخل رؤية تحريرية نقدية ومتكاملة.
في تجربتي قدمت البنية التحريرية الواعية قبل أن تتوفر البيئة الرقمية الكاملة، (كما في تأسيس موقع صحيفة تشرين الإلكتروني عام 1998)، وحرّرت المضمون انطلاقًا من فهم فلسفي للتقنية، كما في مجلتي “المعلوماتية” و”المهندس الرقمي الصغير” وفي صفحة العلوم والتقانة في صحيفة تشرين، وفي برامجي التلفزيونية التقنية، وأدرت التدريب داخل مؤسسات تقنية تدريبية (UNDP، الجامعة الافتراضية، اتحاد الصحفيين، المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني…)، لكني علّمت الصحفي كيف يفكر عبر التقنية لا كيف ينتج بها فقط.

وظيفية الوسيط في استنطاق المعنى

في سياق الصحافة الثقافية التي تبني المعنى، لا تُستخدم التقنية لتزيين المادة، بل لتوسيع وظيفتها الإدراكية. لا أقدم هذا كموقف تنظيري فحسب، بل أجسّده عمليًا عبر مسيرة صحفية تأسيسية امتدت لأكثر من خمسة عقود.
التقنية ليست خلفية للمحتوى، بل جزء من بنية تحليله، إذا وُظّفت بذهنية تحريرية منفتحة.

فلسفة التحرير عبر التقنية في تجربتي

في تجربتي مع التحرير عبر التقنية، لم تعد التقنية مجرد وسيلة لعرض المادة الصحفية بل أصبحت جزءًا أساسيًا من طريقة العمل، إذ تُسهم في كشف الطبقات والمعاني الخفية للمحتوى، وليس الاكتفاء بعرضه فقط. كما أن بناء الخبر الصحفي بات يعتمد على تحويله إلى وحدة تفسيرية تربط بين الظاهر والجذور مستخدمة أدوات رقمية، مما يجعل العملية الصحفية أكثر عمقًا من مجرد نقل ما يُقال. في هذا السياق، أصبح القارئ شريكًا فاعلًا لا متلقياً سلبيًا؛ فالتقنية تتيح له المشاركة في تفسير المعنى والتحقق من المعلومة، معززة دوره عبر أدوات تحقق ومحتوى يُلهب التساؤل بدلاً من الاكتفاء بتقديم إجابات جاهزة.
التقنية ليست مجرد وسيلة… بل “بنية تفسير”. وحين تتحول كل منصة إلى “مساحة معرفية”، يصبح الصحفي ليس فقط مستخدمًا للوسيط، بل مُهندسًا للرسالة، وقائدًا لتحول ثقافي في بيئة هجينة بين الإنسان والخوارزمية.

التقنية أداة في هندسة المعنى

في ظل هيمنة أدوات العرض، كثيرًا ما يُنظر إلى التقنية على أنها وسيلة للتمكين البصري أو التسريع الإجرائي. لكن ترتقي التقنية إلى مستوى هندسة المعنى: فهي لا تُستخدم لإيصال الرسالة فحسب، بل تُشارك في تشكيل بنيتها التفسيرية والسياقية.

• أين يكمن الفرق بين “الصحافة الذكية” و”الصحافة السريعة”؟

التقنية التي لا تصنع المعنى، لا تنقله… وما يضعف تفسير المادة، يضعف قدرتها على الوصول، مهما بلغ وضوح الصورة.

دمج التقانة بالتحرير: نموذج فلسفي جديد

في منهجية الصحافة الذكية حسب تجربتي ، تتحول العلاقة بين المحتوى والوسيط من كونها علاقة خدمية إلى علاقة تركيبية معرفية، تقوم على ثلاث دعامات:
استثمار التقنية في صناعة الرسالة
في تجربتي المهنية، تتجلّى هذه الرؤية في نماذج متعددة، ففي مدونة وطن استُخدم الوسيط التدويني لربط الأحداث المحلية بتعابير الهوية الثقافية، وفي مجلة المهندس الرقمي الصغير: وظّفت التقنية لتفسير المفاهيم العلمية للطفل عبر سرد بصري وتركيبي، وفي مسلسل العنكبوت الأزرق: تم تحرير المحتوى الرقمي بأسلوب يدمج المعرفة بالتشويق، لتأسيس ذائقة رقمية مبكرة، وفي ورشات الصحافة الذكية: تحوّلت المنصة الرقمية إلى مختبر تفسير، لا إلى مجرد أداة نشر.
الخاتمة: الوسيلة بوصفها فاعلًا معرفيًا
منذ أن أُطلقت مقولة ماكلوهان “الوسيط هو الرسالة”، دخلت الوسيلة الإعلامية في مدار الجدل الفكري بوصفها عنصرًا مؤثرًا لا محايدًا. لكن هذه الورقة، في ضوء التجربة التحريرية ، تُقدّم قراءة أعمق:
حين تندمج الوسيلة مع رؤية تحريرية تفسيرية، تصبح شريكًا في صناعة المعرفة، لا مجرد وعاء لحملها.
الوسيط لا يعمل في الفراغ، ولا ينقل الرسالة كما هي؛ بل يعيد تشكيل سياقها، وتحفيز قدرتها على التأويل، وتكثيف أثرها في ذهن المتلقي. وكلما كانت التقنية أكثر قدرة على توليد أدوات الفهم (التحقق، السياق، المرونة، التخصيص)، ازدادت مساهمتها في بناء معنى يستحق أن يُنقل.
وهنا تتجلى خبرتي في الرؤية التحريرية:
لا رسالة بدون فاعلية الوسيط… ولا معنى بدون جاهزية تحريرية تُمكّن هذا الوسيط من أن يُفسّر لا أن يُمرّر.
لذلك، فإن التقنية في الصحافة، كما تمارسها، ليست مجرد تقدم في الشكل… بل تقدم في هندسة الرسالة نفسها؛ بحيث لا تعود الصحافة تشرح الواقع فحسب، بل تُمكّننا من إعادة صياغة الوعي به بذكاء ثقافي تفسيري متكامل.

Leave a Comment
آخر الأخبار