لم يكن رحيلاً كريماً! من يبالي بـ ‘موتِ رجلٍ عادي’؟

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية: حنان علي:

لم يبدُ الموت مُداهماً من وجهة نظر الكاتبة البريطانية سارة بيري، بل كان أقرب إلى ضيفٍ صامتٍ هبط فجأةً في سوق نورويتش على هيئة ضوء شاحب تسلل من عيني والد زوجها “ديفيد”: “أدركتُ بتسليمٍ غريب أن حماي موشك على الرحيل!” بهذه الكلمات تستعيد بيري لحظة لقائها “ديفيد” في السوق، مرتعد الخطا، مشوّش الوعي. لم تكن نبوءة، بل معرفةً بأن الموت – ذلك الوافد الأسطوري – قد قدِم بالفعل ليضع يداً على كتف هذا الرجل العادي.

تحولات الجسد

شهدت بيري على الموت وهو ينسج خيوطه خلال 48 يوماً، تحوَّل فيها ديفيد من رجلٍ اعتاد تنظيم طوابعه بعناية باستخدام أعواد معدنية ومكبر، إلى جسدٍ انجرف إلى الهاوية تدريجياً، جفَّت شفتاه، وتغيَّر لون بشرته وهيئة جلده، حتى تحولت يدا العامل الكادح إلى يدين باهتتين أشبه بيدي عازف بيانو روسي.

لا بأس! الموت يأتي، والحياة تُصِرُّ على الانشغال بجمعِ فتاتها!

لم يكن “موتاً كريماً” كما يحلو للبعض تسميته، بل كان مسيرةً من الارتباك والخوف، تلاهما العجز التام. لولا أن بيري آثرت أن ترى في هذا الجسد المحتضر معجزةً أخرى، لما تحول إنسان عادي إلى كائن مهيب، يختزل في أنفاسه الأخيرة سرَّ الوجود.

حياة تسبق الموت

ظلت لحظات ديفيد الأخيرة ترسم ملامح حياته بأكملها: فالرجل الصارم الذي حرص على مصافحة ابنه بدل معانقته حتى يوم تشخيص المرض القاتل! الذي أصر على تدوين أعياد الميلاد في التقويم الجديد كل يناير. صاحب الضحكة الخجولة على نكاته، وعاشق مجلات التحف القديمة؛ ظل في أيامه الأخيرة، يحاول – بخطّه الواضح – نقش كل كلمات السر وتفاصيله الأمنية على الصفحة الأخيرة من مفكرة الحائط. وكأنه لا يزال يرتب أمور حياته كما اعتاد طوال تلك السنين.

رهبة الفناء الهش

تسرد بيري باختصار عبثية الوجود: الموت، ذلك الملك الجبار، يدخل منزلاً عادياً بينما تستمر الحياة تمارس جنونها خارجه. فالجيران لم يتوقفوا عن نشر غسيلهم الملون وهم يتبادلون التحية عبر الشرفات، وكذلك شاحنات النفايات ما فتئت تواصل مهماتها الروتينية اليومية، لكن لا بأس! “فالموت يأتي، والحياة تُصِرُّ على الانشغال بتنظيف فتاتها!” كذلك في قلب هذه المسرحية الوجودية، يبرز ممثلون غير متوقعين: ممرضات ومسعفون من نورفولك، تتدحرج الكلمات على ألسنتهم بلهجة محلية، يظهرون فجأة وبأيديهم استمارات وأجهزة ومكالمات هاتفية، ثم يختفون إلى غير عودة. حتى الطبيب الذي أذهلها ببرودته – وهو يرمي قشرة موز في السلة – لم يكن قلبه خالياً من المشاعر، بقدر ما أبدى تجسيداً للتناقض الإنساني العجيب: كيف يمكن للروتين أن لا يخفف من وتيرته حتى على أعتاب الموت، في لحظة تصادم مأساوية بين النظام اليومي وفوضى الفناء.

الرقصة الأخيرة

من خلال التماوج الغريب بين: الحياة التي تأبى التوقف والموت الذي يرفض الانتظار، والرحمة المعلبة وبرودة الحكمة، تكتشف بيري أن الموت ليس لحظة، بل هو رحلة متعددة المحطات، بعضها مؤلم كالغصة، وبعضها غريب كالحلم، وبعضها مضيء كالوصية. رحلة تثبت أن الجمال، حتى في أحلك اللحظات، يمكن أن يختلس أنفاساً خفية، وأن حكمة الوجود أعظم مما نعرف.

مفارقة الكينونة

من موت إنسان عادي، أدركت بيري أن ما من حياة عادية، وما من موت عادي. ولم تعد تحتاج إلى “كنز الياقوت” كي تجد كنوزاً أدبية. فقد اكتشفت أن أعظم الملاحم تكمن في تفاصيلنا “العادية”: في يد الشيخ المرتعشة التي تمسك الطوابع، وفي المصافحة التي تخفي حباً صامتاً، وفي الأيام الثمانية والأربعين التي تستغرقها روح متعبة كي تفارق الجسد. الموت يُبدي كل مرة لغزاً فريداً، وقصة لا تتكرر، أما الحياة في أبسط تجلياتها، فتحمل من الأسرار ما يعجز أعظم الأدباء عن سبر أغواره.

حولت سارة بيري رجلاً عادياً إلى كائنٍ يختزل في أنفاسه الأخيرة سرَّ الوجود

“موت رجل عادي: المذكرات الجديدة عن الحياة والحب والموت”، كتاب لا يتناول الحزن بقدر ما يسرد جوانب إنسانية استثنائية أظهرتها صدمة حلول الموت.

سارة بيري؛ روائية بريطانية، حاصلة على الدكتوراه، وزميلة في الجمعية الملكية للأدب، أبرز أعمالها الحاصلة على جوائز مرموقة هما روايتا “أفعى إيسيكس” و”ملموث”. تُرجمت رواياتها إلى لغات عدة.

Leave a Comment
آخر الأخبار