الحرية- إدريس مراد:
في الحقبة الكلاسيكية وما قبلها، كانت الموسيقا حكراً على الطبقة المخملية، هي من تحضر الآماسي في القاعات الفاخرة، ومن تتطور الموسيقا وتحسنها حسب غايتها، بمعنى آخر، أصبحت فنون الموسيقا الرفيعة، من أوبرا وسيمفوني في ظل النظام الرأسمالي صناعة كأية صناعة، والموسيقا والموسيقيون خاضعون لشباك التذاكر، والدوق والكونتيسا.
حاجة إنسانية
كانت الطبقات الفقيرة حينها من عمال وفلاحين ورعاة وصيادين، محرومة من التعليم ومن القراءة، كذلك كانت محرومة من الاستمتاع بفن الموسيقا المتطور، فأنتجت موسيقاها كحاجة إنسانية في صورة الأغاني الشعبية وضروب ألحان خاصة بها، لتكون مادة موسيقية خامة وثروة مهملة لم تتناولها يد الفن المتطور، ولتكون فيما بعد المادة الأساسية في نهضة الموسيقا القومية في بداية القرن العشرين، ذلك مع المنعطفات التي حصلت في تاريخ البشرية، وبدء شرارة بعض الثورات من أجل المساواة وخلاص بعض الأمم من نير الاستعمار وثم العمل من أجل العدالة الاجتماعية، لتتحرر معها الموسيقا،
من هنا بدأ يستمد الموسيقيون مادتهم من حياة الناس، من كفاحهم وأحلامهم ومشاعرهم، ودرسوا الأغاني وألحان الأساطير الشعبية، وجسدوها في أعمالهم الأوبرالية والسيمفونية، وبدأت خامات الفن الشعبي تعرف طريقها إلى الأساليب الفنية الحديثة لتخرج منها موسيقا تجمع بين سلامة الاستعمال اليومي للإنسان العادي، وبين خصوبة التجربة الإنسانية والاجتماعية وعمقها، أو ما يسمى بالتيار القومي في الموسيقا، وهذه المدرسة نشأت في روسيا، نتيجة طبيعية للتطور الاجتماعي والشعبي الذي استهدف تقارب الطبقات.
الحركة النهلستية
من المراحل التي سبقت هذه المرحلة كانت مرحلة ظهور الحركة النهلستية في الأدب والفن، لتكون أول مرحلة من مراحل صراع جبار، أسفر فيما بعد عن أعظم النتائج، وكان أول من استخدم لفظ نهلست هو الكاتب ترجنيف الذي عاش بين عامي 1818- 1883 في قصته الشهيرة الآباء والأبناء وأشار فيها إلى ضرورة تغيير الأوضاع الطبقية والتخلي عن المعتقدات الخرافية على أسس من العلم وتحرير الشعب.
وفي ميدان الموسيقا ساهم الخمسة الكبار في إنشاء تيار نهليستي، بدأ من سنة 1830 حتى سنة 1908 استهله ظهور ميشيل جلينكا (1804- 1857) الذي درس الموسيقا صغيراً وأتمها في إيطاليا وألمانيا حيث درس التأليف، وعاد إلى روسيا ليألف لها موسيقا قومية شعبية وتبنى ما يعرف في تاريخ الموسيقا الروسية بالخمسة الكبار وهم بالاكريف، سيزار كوى، ريمسكي كورساكوف، مسورجسكي، بورودين ووضعوا شعارهم بأن الشعب من يخلق الموسيقا أما نحن فنهذبها فقط، وعلى أكتاف هؤلاء نهضت الموسيقا في روسيا نهضة جبارة، والغريب أنهم كلهم بدأوا هواة في الموسيقا إلى جانب أعمالهم الأصلية، منهم من كانوا ضباطاً، ومنهم من عملوا في مهنة التعليم، ولكنهم أسسوا للعالم المتحضر لوناً جديداً من ألوان الموسيقا، يعتمد قواعد التأليف ويستقي مادته من أغانٍ طالما رددها الناس وحولوها إلى أعمال ضخمة من الأوبرا والباليه والسيمفوني. كانوا يتعاونون فيما بينهم، وغالباً ما يتولى كورساكوف مهمة التوزيع الآلي ليبقى صاحب مدرسة في علم التوزيع، وأسلوبه يدرّس اليوم في أرقى معاهد العالم.
استمرار للهوية القومية
نتيجة هذه العوامل الاجتماعية والثقافية، وجد في الساحة العالمية موسيقيون يجسدون الهوية القومية منهم سميتانا ودوفرجاك في تشيكوسلوفاكيا، وغريغ في النرويج والبينيز وجرانادوس في إسبانيا، و إلجار في بريطانيا، وليست في المجر وشوبان في بولندا، بل ولد الاتجاه القومي حماساً لدى مؤلفين من جنسيات أخرى جعلهم يكتبون موسيقا ذات صبغة قومية لبلاد غير بلادهم كمقطوعات برامز المجرية وجلنكا وريمسكي وبيزيه الأسبانية وأعمال إيطالية لتشايكوفسكي.
ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت الموسيقا القومية حقيقة لا خلاف على حيويتها وخصوبتها، وأضافت للموسيقا الأوروبية ملامح جديدة، وحقق هؤلاء هذا البعد الموسيقي من خلال الغوص بحثاً عن الجذور، فاكتشفوا منابعهم في أحد مصدرين الموسيقا الشعبية والفلكلور الموسيقي، حيث أصاخوا السمع لأغاني الفلاحين وعمقوا النظر في رقصاتهم وعنوا بآدابهم وأقاصيصهم وتقاليدهم المتوارثة، واكتشفوا آفاقاً في التكثيف النغمي هارمونياً وبوليفونياً، تختلف وتتعارض أحياناً مع اللغة الأكاديمية للموسيقا الأوروبية الفنية، كما أدهشتهم الإيقاعات الشعبية بموازينها الأحادية وتكويناتها المزدوجة.
الصورة الثانية
لا ننسى الصورة الثانية للقومية كاتجاه رئيسي تبناه أصحابه والتزموا به ولكنهم تطوروا به نحو مسالك واتجاهات تختلف في نضوجها وتفنينها وأساليبها باختلاف الشخصيات والمواهب وعلى رأسهم بارتوك ودي فاليا وفون وليامز وفيلالوبوس وشافيز، الذين تركوا في موسيقا المجر وإسبانيا وبريطانيا والبرازيل والمكسيك آثاراً باقية بأعمالهم القومية التي نبعت عن وجهات نظر وفلسفات اجتماعية ونظرة تاريخية تؤكد حقيقة جمالية وهي أن القومية ليست مناهضة للعالمية.