الحرية- لبنى شاكر:
منذ سبعة عشر عاماً عرضت فضائياتٌ سوريةٌ لوحة “الرجل البخاخ” في الموسم السادس من مسلسل “بقعة ضوء”، وكانت تلك المرة الأولى التي يتعرّف فيها الجمهور إلى الكاتب “عدنان الزراعي” ابن حي بابا عمرو في مدينة حمص، بعد النجاح الكبير للحلقة التي كتبها بسخرية صوتٍ حر. أما المرة الثانية التي عاد فيها اسم الزراعي إلى الأسماع فكانت عام 2012، عند اعتقاله في مداهمةٍ نفذها فرع أمن الجسر الأبيض في دمشق، ثم نُقِل بين عدة أفرع أمنية، من دون أن يُعرف مصيره، ليصبح في عداد المختفين قسراً حتى تاريخ هذا اليوم.
في المعرض 350 عملاً فنياً تحكي مشاهد من يوميات الحرب والموت والأمل داخل سوريا وخارجها في دول اللجوء والهجرة
في غيابه الطويل، لم يُمحَ أثر الكاتب الزراعي، بل بقي حيّاً في ذاكرتنا، في الضمير، وفي الفن الذي يبقى حين يغيب أصحابه، وهو ما ينسحب على الآلاف ممن غيّبهم نظام الأسد قسراً ومن اعتقلهم وعذّبهم، منذ بدء الثورة حتى لحظات سقوطه المُدوي. وعلى أن المُطالبة بكشف مصير السوريين الذين ندين لهم بما نحن عليه اليوم، خطوة لا بدّ منها في طريق العدالة، فالأمر ليس سياسياً فقط كما يبدو، إنما ثقافيٌّ أيضاً، يُؤدي الفن فيه دور المُوثّق والمُؤرشف، للأسماء والوجوه، وللثورة السوريّة التي غيّرت كل شيء حولنا، وهو ما يسعى إليه فريق منصة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية”، التي افتتحت مُؤخراً معرض “معتقلون ومغيبون” في المتحف الوطني في دمشق.
“لن نقبل بأن يصبح التغييب والاعتقال من المنسيات لذلك عملنا لتوثيق كل ما حصل في مواجهة النسيان والإنكار”
ينقسم المعرض إلى فصول مُبوبة بأحداث مفصلية من عمر الثورة، بدءاً من2011 عام الاعتقال الأول، إلى 2012 الفن في المعتقل، ثم 2013 كيماوي الغوطة والتدهور الكبير، مروراً بـ 2014 -2015 قيصر، 2016–2017 المسالخ البشرية، 2018 قوائم الموت، 2019–2020، محاكمات لانتزاع العدالة، وصولاً إلى 2024–2025 سقوط الديكتاتور. تضم 350 عملاً فنياً، يحكي مَشاهد من يوميات الحرب والموت والأمل، داخل سوريا وخارجها في دول اللجوء والهجرة، وبشكل أكثر دقة، ما استطاع فريق المنصة الوصول إليه وحفظه بكل الطرق المتاحة، مع التركيز على موضوعي الاعتقال والتغييب.
تتحدث مؤسسة ومديرة “ذاكرة إبداعية للثورة السورية” سنا يازجي لصحيفة الحرية: “عند بدء الثورة كنت جزءاً منها وأدهشني كم الطاقات الإبداعية المنتشرة في أرجائها، حتى أنني خلال تنقلاتي بين جوبر وداريا ودوما، كنت أتساءل من سيجمع كل هذه المواد الفنية المنتشرة هنا وهناك. بعد سنوات تعقّد المشهد العام وتعرضت للتهديد، فسافرت خارج سوريا، لكن رغبتي بالمُشاركة دفعتني للبحث عبر الإنترنت عن أي جهات تهتم بجمع وتوثيق المواد المتعلقة بالثورة، ووجدت عدداً منها، لكنني لم أعثر على جهة تُعنى بالشأن الثقافي والفني لِما كان يجري، وهنا قررت البدء بنفسي عام 2012، ومن ثم طلبت المساعدة حتى أصبحنا فريقاً من مجموعة أشخاص، وتلقينا دعماً من عدة مؤسسات أوروبية”.
جمع الفريق خلال أعوام الثورة كلّ ما استطاع من أشكال التعبير الحر، الفكري والفني، كالرقص والغناء اللذين ظهرا خلال المظاهرات، إضافة إلى “لوحات، صور، لافتات، بوسترات، كتابات جدرانية، غرافيتي، فيديوهات، روايات، مقالات أدبية، قصائد، حملات البخ”. تقول يازجي للحرية “غايتنا كتابة وجمع حكايات السوريين في تجربتهم الملحمية، معكوسة في الفن والإبداع، والتي أعادوا واستعادوا من خلالها إنتاج معاني وجودهم الاجتماعي والسياسي، والثقافي، أعادوا امتلاك الفضاء العام، ومارسوا واختبروا فعل ومسؤولية الانتماء إليه. أردنا حفظ الذاكرة لأن النظام غيّب كل شيء، لا بدّ من أرشيف لذاكرة الثورة السورية”.
في المعرض ركّز الفريق على الاعتقال والتغييب، كشأنٍ عام يلتقي عنده السوريون جميعاً، وعلى حدّ تعبير يازجي “فالبعض يظن بأن ما حدث للآلاف، حدث وانتهى، لكننا لن نقبل بأن يُصبح التغييب والاعتقال من المنسيات، لذلك عملنا لِتوثيق كل ما حصل في مواجهة النسيان والإنكار”، تقول أيضاً “النسيان يحدث لأن الناس تريد العيش، وهذا أمر طبيعي، أما الإنكار فهو فعل سياسي، من شأنه أن يُضاعف مأساة أهالي المُعذَّبين ومجهولي المصير، من حق الجميع أن يعرفوا ما الذي حدث ولماذا وكيف، لماذا حصل الاعتقال والتعذيب والتغييب، لذلك فالمعرض خطوة نحو العدالة، حتى إن عرض الأعمال في دمشق بعد رحلة 14 عاماً من العمل الشاق في توثيق الألم السوري، يحمل رمزية كبيرة في عودة هذه الذاكرة إلى بلدها وناسها، وفي مكان عام تُشكل استعادته، استعادةً لسوريا بأكملها”.
“عرض الأعمال في دمشق بعد رحلة 14 عاماً من العمل الشاق في توثيق الألم السوري، يحمل رمزية كبيرة في عودة هذه الذاكرة إلى بلدها وناسها”
في المعرض لوحة للرسام موفق قات، يُقدمها إلى رسام الكرتون السوري المعتقل أكرم رسلان، وأخرى لأم الشهيد للفنان يوسف عبد لكي، وفي إحدى الصور تُقدّم فرح أبو عسلي صورة بعنوان “هن” تحكي عن إضراب المعتقلات في سجن عدرا، أيضاً تُطالعنا لوحة عماد عبيد عن الناشطة السورية المُغيبة رزان زيتونة، ومن عام 2015 بوستر بعنوان “أنقذوا البقية” والذي ظهر ضمن حملة “الشعب السوري عارف طريقه” لإنقاذ المعتقلين والمغيبين، وفي السياق لوحة للدكتورة رانيا العباسي التي اعتقلتها قوات النظام البائد عام 2013 مع زوجها وأطفالها الستة، من دون أن يُعرف مصيرهم حتى اللحظة، والكثير مما يستحق الفرجة والصمت أولاً، وصولاً إلى المطالبة بالعدالة.
“معتقلون ومُغيّبون” مستمر حتى 6 حزيران القادم، في قاعات المتحف الوطني في دمشق، من الساعة 9 صباحاً وحتى 6 مساءً عدا يوم الثلاثاء.