الحرية – مها سلطان
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول الماضي، سيطر على المشهد السوري (والدولي) سؤالان رئيسيان متعلقان بروسيا والصين. اليوم بعد حوالى 11 شهراً بدا أن سؤال روسيا تمت الإجابة عليه إلى حد كبير مع زيارة الرئيس أحمد الشرع لموسكو الأربعاء الماضي، فيما بقي سؤال الصين قائماً.
مساء السبت الماضي، وفي مقابلة مع قناة الإخبارية السورية تحدث وزير الخارجية أسعد الشيباني بتوسع عن قواعد الدبلوماسية السورية على المستوى الإقليمي/العربي/ والدولي، واصفاً هذه الدبلوماسية بـ«الهادئة والمخطط لها» دون أي تنازلات عن حقوق السوريين. وضمن المقابلة كانت روسيا والصين حاضرة بطبيعة الحال، مشدداً على أن العلاقة معهما ومع أوروبا تقررها مكانة سوريا.
مع استعداد الشيباني لزيارة الصين وحديثه عنها كأحد المساهمين المحتملين في الإعمار انطلقت التحليلات والتوقعات حيال تصنيف هذه المساهمة ومستواها وما يمكن أن تقود إليه
العودة الصحيحة
وفيما قال الشيباني أن القيادة السورية تعاملت مع موسكو تدريجياً لتحييدها عن دعم النظام السابق، أعلن أنه بصدد زيارة الصين مطلع الشهر المقبل (تشرين الثاني) تلبية لدعوة منها، مشيراً إلى أن الزيارة تأتي «لبحث مجالات التعاون الاقتصادي وإسهام الصين في إعادة إعمار سوريا». وقال: إن سوريا بحاجة إلى شراكات استراتيجية حقيقية – ولا سيما مع الصين- في مرحلة البناء وإعادة الإعمار.
هذه الجملة «لا سيما الصين» كان لها وقعها، ومنها انطلقت التحليلات والتوقعات حيال الشراكة الاقتصادية التي يمكن أن تقوم بين سوريا والصين (التي كانت ضمن الحلفاء الرئيسيين لنظام الأسد).
الشيباني قال ضمن تلك المقابلة مع الإخبارية «إن العلاقات مع الصين تعود إلى مسارها الصحيح بعد سنوات من اصطفافها إلى جانب النظام السابق».
من نافل القول إنه عندما تحضر روسيا يحضر معها حديث العسكرة والتسليح، وعندما تحضر الصين يحضر معها حديث الاقتصاد، ومن نافل القول أيضاً أن القيادة السورية تدير عودتها إلى المحافل الدولية، وخاصة مع حلفاء النظام السابق، بكثير من البراغماتية لتحقيق علاقات مستقبلية متوازنة وعلى قاعدة الحفاظ على المصالح الوطنية العليا من جهة.. وبما لا يتعارض مع مسار علاقاتها مع الغرب (أميركا تحديداً) من جهة ثانية. وهناك اتفاق عام على أن الدبلوماسية السورية حققت خطوات كبيرة فارقة في هذا المجال.
سوريا تدير عودتها إلى المحافل الدولية بكثير من البراغماتية لتحقيق علاقات متوازنة على قاعدة المصالح الوطنية وبما لا يتعارض مع الغرب.. وهناك اتفاق عام على أنها حققت خطوات كبيرة في هذا المجال
دبلوماسية لا تهداً
ورغم أن سوريا الجديدة تصف دبلوماسيتها بالهادئة إلا أنها دبلوماسية لا تهدأ، فهي تصنف بالأكثر نشاطاً، إنها ورشة عمل متكاملة لا تكاد تترك شاردة أو واردة إلا وتكون حاضرة عليها مهما تعددت المستويات أو تعقدت المسارات أو اتسعت التحديات. عملياً يمكن وصفها بدبلوماسية النَفَس الطويل وصولاً إلى الهدف عاجلاً إذا ما أمكن، أو آجلاً إذا ما احتاج بعض الوقت.
وإذا ما تركنا روسيا لبعض الوقت وركزنا على الصين وزيارة الشيباني المرتقبة لها، وحديثه الاقتصادي، فلا بد أن نعود إلى السؤال آنف الذكر حول الشراكة الاقتصادية التي يمكن أن تقوم بين سوريا والصين، ما هي شروطها ومتطلباتها، وإلى أي حد يمكن أن تسهم الصين في عملية الإعمار والتنمية؟
بداية، لا شك أن زيارة الشيباني للصين لا تأتي من فراغ. هناك عوامل ومقومات استدعتها، وتالياً هناك نوع من التفاؤل بإمكانية وضع نقطة بداية لتلك الشراكة، أو لنقل مبدئياً بداية لتعاون اقتصادي يتوسع باتجاه شراكة. وللتوضيح فإن الصين- بالنسبة للسوريين- ربما تفترق عن روسيا، كحليف للنظام السابق، فبينما كان لروسيا دور عسكري مباشر في دعمه فإن الصين في مجمل مواقفها سجلت مسافة بينها وبين النظام السابق (ونحن هنا لا نتحدث عن الفيتوهات الشهيرة المشتركة مع روسيا في مجلس الأمن) وإنما نتحدث عن دعم ميداني كان له تأثير كبير في إطالة أمد الحرب، ومعها معاناة السوريين.
بكل الأحوال وفي إطار ترتيب االعلاقات الدولية، وكذلك في إطار استثمار كل الفرص المتاحة، فإن سوريا تنتهج سياسة متعاونة مع الجميع على قاعدة تحقيق المكاسب وتسريع عملية الإعمار والتنمية تعزيزاً للسيادة والاستقرار. وهنا يجدد الشيباني التأكيد على دبلوماسية بعيدة عن الاستقطاب هدفها «إعادة تعريف موقع سوريا كدولة تسعى للاستقرار والتعاون الدولي» مشيراً إلى مشاركة سوريا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها «خطوة ضرورية تعبر عن الشعب السوري للمرة الأولى بعد سنوات الحرب».
لا شك أن زيارة الشيباني للصين لا تأتي من فراغ.. هناك عوامل ومقومات استدعتها.. وتالياً هناك نوع من التفاؤل بإمكانية وضع نقطة بداية لتعاون اقتصادي يتوسع باتجاه شراكة استراتيجية
مرحلة جديدة
إذاً، مع زيارة الشيباني يمكن القول إن العلاقات السورية الصينية بصدد مرحلة جديدة ستتسم بخطوات أوسع، بعد مسار بطيء نوعاً ما خلال الأشهر الماضية. صحيح أن عدة قضايا ما تزال عالقة، وبعضها شديد التعقيد (أبرزها الإيغور) إلا أن كل قضية تكون محل نقاش وبحث هي قضية قابلة للحل.
الصين تريد الحفاظ على علاقتها مع سوريا وترى فيها فرصاً استثمارية كبيرة، عدا عن أن هذه العلاقة تحفظ للصين موقعاً مهماً في المنطقة بحكم الجغرافيا التي تضع سوريا في نقطة تقاطع بين مشروعي الخط الصيني (الحزام والطريق) والخط الهندي. الصين تمتلك قدرات مالية وتقنية هائلة يمكن أن تضمن لها حصة كبيرة في مشاريع الطاقة والبنية التحتية في مرحلة الإعمار والتنمية وهذا ما تركز عليه سوريا.
غني عن القول إن سوريا تواجه تحديات اقتصادية هائلة من جهة.. ومن جهة ثانية تواجه ما يسمى «مخاطر عالية» عندما نتحدث عن الاقتصاد في ظل بيئة ليست آمنة بشكل كامل. وتالياً فإن سوريا تحتاج مع الاستثمارات استعداداً للمخاطرة أولاً، وفصل الاقتصاد عن السياسة ثانياً. أو لنقل تحتاج مسارات اقتصادية بعيدة عن مسارات المحاور والاستقطاب، وهذا ما تعمل عليه رغم أن هذه المهمة تكاد تكون شبه مستحيلة التحقيق، أو يمكن تحقيقها بأقل قدر من الاستقطاب. ولا ننسى هنا أن الصين في قمة الهرم الاقتصادي العالمي ولها مقعد دائم في مجلس الأمن، ولا شك أن القيادة السورية تضع كل ذلك في الحسبان وتدرك تماماً حجم المكاسب الاقتصادية والسياسية التي يمكن تحقيقها من وراء علاقات متوازنة مع الصين.
الصين تريد الحفاظ على علاقتها مع سوريا وترى فيها فرصاً استثمارية كبيرة عدا عن أن هذه العلاقة تحفظ لها موقعاً مهماً بحكم الجغرافيا التي تضع سوريا في نقطة تقاطع بين الخطين الصيني والهندي
الجهود المتبادلة
هنا يفيد التذكير بأن الصين منذ سقوط النظام السابق كانت تبحث عن زمان وعن آلية مناسبة لترتيب العلاقات من جديد مع سوريا.
بعد شهر واحد من سقوط النظام السابق أرسلت الصين وفداً برئاسة سفيرها بدمشق، شي هونغ وي، للقاء الرئيس الشرع. بعدها تكررت زيارات الوفود الصينية واللقاءات مع الشيباني وبشكل بقي معه ملف العلاقات حاضراً.
اليوم بعد حوالى 11 شهراً تبدو العلاقات السورية الصينية أقرب إلى إمكانية أن تكون استراتيجية ما دام كلا الطرفين يملكان النية والجهود المتبادلة لإعادة صياغة/تعريف العلاقات بما يتوافق مع المصالح المشتركة الآنية، وعلى المدى الطويل.
بكل الأحوال، لننتظر زيارة الشيباني وما سيخرج عنها، وبعدها قد يكون لنا حديث آخر أوسع وأكثر تحديداً ودقة.