الحرية- جواد ديوب:
أختارُ أغنيةً لأم كلثوم لكن ما إن تبدأ المقدمة الموسيقية المهيبة حتى أشعر بضيق نَفَسٍ ورهبة.. أقول في سرّي: ربما ليسَ هذا توقيتها المناسب.. أبدّلُ إلى نمطٍ موسيقي مختلف وأختار أغنيةً من «طقطوقات» الزمن الحالي، لكنني أحسّ بمرحها الزائد وخفّتها غير المناسبة.
أقلِّب سريعاً بين الوديعيّات والفيروزيات ثم نحو مكابدات وردة مع بليغ حمدي، ويكادُ الشجنُ العراقي أن يُطفِئَ قلبي من اللوعة والوجد، ثم أهتدي، نعم أهتدي هذه هي الكلمة الدقيقة، إلى تنويعاتٍ من عزفٍ للعود على مقام الراست/الرصد فتبدأ السكينةُ مسارها من أذني باتجاه الرئتين؛ يهدأُ إيقاعُ تنفّسي ويتهادى الماءُ المصطفِقُ في جسدي، ثم يبتسمُ قلبي قليلاً، وتلمعُ عيناي كأنّ جسدي كلّه تحوّل إلى واحةٍ للنغم والصدى.
كأنّ حاجة الجسد تحديداً إلى الألحان تشبه تماماً حاجته للطعام المنوَّع؛ فمرّة يحتاج إلى ملحِ الذكريات، وتارةً إلى سكّريات السعادة، ومرّة يجتذبه الطعمُ الحامضُ في ليموناتِ المديح أو نكهة الغموض في القهوة المُرّة مع بكائيات الحنين على شرفة الماضي… وإذا ما جنَّ جنونه يوماً فستجده افترشَ مائدةَ ألحانٍ مشكّلة وراحَ يرْقصُ ويرقِّصُ الكونَ معه.
وفي الأسطورة جعلتْ موسيقا «أورفيوس» حتى الحيواناتِ والأشجار والصخور تتبعه حين يعزف.
التأثيرات المدهشة للموسيقا!
لذلك ومن هذه التأثيرات المدهشة للموسيقا ومن التفكّر في قدراتها السحرية على الإمتاع والعلاج توجهتُ إلى عازف العود الباحث جمال عوّاد، وهو مختص بعلاج أطفال طيف التوحّد عبر استخدام الموسيقا وتدريبهم على عزفها، وسألته عن قدرة الموسيقا العلاجية، فيأخذنا عوّاد إلى منطقة أكثر تخصّصاً لكنها نادرة وقلّما يتم التحدث عنها، يضيءُ لنا الطريق ويقول:
«إن النظام العصبي السمعي هو مفتاح مهم جداً للحصول على انتباه واستجابة دماغ المريض، وقد تعززت هذه الفكرة في استخدام الموسيقا كمُدخَلٍ سمعيٍّ مفضّلٍ لدى البشر لِما لها من قدرة على تحفيز ما يسمى limpic system أو «النظام الحوفي» في الدماغ وهو ما يوصف مجازياً بـ«موطن العواطف والغرائز»، السرُّ يكمن في قدرة الموسيقا على تحفيز هذا النظام ليأمرَ الجسدَ باستجاباتٍ تكيّفية مناسبة بشكل يشبه تماماً آلية تكيّف الجسد مع درجات حرارة معينة بإحداث استجابة التعرّق مثلاً، وبالتالي يجب ألّا نستغرب دور الموسيقا في توفير مثل هذه الاستجابات النفسية والجسدية المناسبة لحالة المريض».
الموسيقا علاجٌ أساسي!
ورغم أن عوّاد يعلم أن التدخل العلاجي الموسيقي يُعدُّ من «التدخّلات المكمِّلة» في الحالات الفيزيولوجية والسايكولوجية إلا أنه يؤكّد أن الموسيقا يمكن أن تكون في حد ذاتها علاجاً رئيساً ووحيداً في بعض الحالات الخاصة إذا امتلكَ المعالجُ الموسيقي المعرفة الدقيقة بأسباب الاضطراب وخصوصاً «اضطرابات التكامل الحسي»، فللموسيقا قدرة على تحسين وتنسيق الحركة بالنسبة للحركات الدقيقة والخشنة وتُحسِّنُ الوظائف الإدراكية المتنوعة، ولها دور مهم في تحسين حالات صعوبات التعلم والشلل الدماغي، وصعوبات اللغة والتواصل اللفظي والعاطفي ومهارات التواصل الاجتماعي.
ولعلّ النقطة النادرة والمهمة في رأي عوّاد التي كوَّنَها نتيجة معاينة ومحادثة دقيقة ويومية للحالات التي يدرسها ويعمل معها وعليها في عمليات التأهيل السمعي للأطفال زارعي «القوقعة الأذنيّة الصنعية»، فهذه الشريحة بأمسّ الحاجة للتأهيل السمعي المبكّر نظراً للحرمان الحسّي السمعي الذي يؤثر بشكل مباشر في مهاراتهم الحياتية اللازمة للتطور الطبيعي للفرد.
لذلك كانت هناك ضرورة ملحة للتدريب السمعي الذي لا يمكن أن يكتمل من دون الموسيقا المهمة لتعزيز مهارات الاستماع والتطوّر اللغوي وإنتاج الكلمات.. هذا الدور المكمّل للموسيقا يفسّره العلماء بـأن «الموسيقا تخاطب باطن الإنسان أي لا وعيه والذي بدوره يبعث رسائل وإشارات إلى الوعي الذي يترجمها إلى أفعالٍ وقرارات تساعد في العلاج وتُسرِّع في الشفاء».
الموسيقا صمّام أمان!
ولعلّ من الجميل -مع كلمة الشفاء هذه- أن نذكرَ حكايةً طريفة عن بيتهوفن وموسيقاه يرويها الناقد الموسيقي «سيريل سكوت» يقول فيها:
«إن موسيقا بيتهوفن كانت بمثابة صمّام أمانٍ للمجتمع البريطاني الفيكتوري، حيث الالتزامُ الصارم بالآداب والرصانةُ الكابحة والكبتُ المزمن كلّها جعلت عواطفَ الناس حبيسةَ صدورهم.. ولذلك كانت النساء يُنفّسن عن مشاعرهنَ حين يعزفن سوناتاته المشحونة بالعاطفة الجيّاشة، وبذلك لعبت موسيقاه دوراً حاسماً في رفع مستوى الصحّة العامة للمجتمع كلّه».
بينما قال الروائي بلزاك يوماً: إن «الموسيقا وحدها لها القدرة على التغلغل عميقاً في أرواحنا… أمّا بقية الفنون فلا تقدّم لنا سوى مَسرّاتٍ عابرة».