الحرية- أحمد عساف:
هكذا كتبتني أيامي..كتاب يشبه السيرة الذاتية للشاعر طلال الغوار، صدر حديثاً عن دار السرد في بغداد.
المؤلف يقول: “إن توجهي نحو السرد يندرج ضمن عملية التجريب التي تتسم بالمغايرة، وليس التجريب من أجل التجريب وحده، وإنما كما ذكرت سابقاً يستند إلى قراءات وتجربة وثقافة تحمل رؤى وأفكاراً وتصورات، وبالتالي فالتجريب الذي أمارسه هو استجابة لها فضلاً عن رغبة ذاتية، في أن يشاركني الآخر في معرفة الكثير من تفاصيل حياتي وتجربتي الحياتية عبر مسارها الطويل” (ص 13).
منذ البداية مع تدفق النهر الذي يبدأ به طلال الغوار، يعد المكان من أهم المكونات التي تشّكل بنية السيرة الذاتية، حيث يستحيل على المتلقي معايشة أحداث السيرة دون المكان الذي تسير فيه أحداث السيرة.
لعّل هذه الميزة التي نجح فيها كثيراً الكاتب طلال الغوار. يضاف إلى ذلك تيمة متوالدات الأمكنة النهر والشجر، واستخدام ضمير المتكلم كراوٍ لسردية الأحداث، الأمكنة، الأزمنة، الشخصيات، عبر لغة سلسلة رشيقة وشيقة على وجه الخصوص أن ساردها هو المحور الأساس هو الشاعر المتميز، فكيف لا تكون اللغة عذبة وشيقة وسلسة.
يقول: “نحن نولد وحيدين ومستوحدين، ونموت هكذا أيضاً، وعينا هو من يعمق مأساتنا ويجعلنا دائمي البحث من أجل أن نردم ما بيننا وبين الآخر” (ص79).
يتمتع الشاعر طلال الغوار في تلك الميزة، ميزة الانزياحات اللغوية التي من خلالها يسيطر على كبح جماح اشتهاء القول، لمصلحة مسروده لمنعه من الترهل والزيادة.
منذ البداية ومع الفصل الأول (النهر) يسرد لنا جماليات المكان ورشاقة النهر يقول: “أول مشاهدة لي في طفولتي هي النهر، تعلمت السباحة وأنا في سن مبكر” (ص 15).
إذاً فالمكان هو العالم الذي تسير فيه أحداث السيرة من تحولات على مستوى أفعال الشخصيات، ومن رؤية السارد طلال الغوار، من خلال عالمه الإنساني الذي يبني منه عوالم راسخة لبنية نصه المسرود هذا، الذي أعجبني عنوانه جداً (هكذا كتبتني أيامي).
نلاحظ أن النهر حاضر حتى في غيابه، فهو الخلفية الصوتية والبصرية لكل ما حدث، وكأن الذاكرة لا يمكن أن تعمل بدونه، والنهر مع الحضور الشاسع للشجر والأشجار يشكلان تيمة سردية، تضيف جماليات أخرى لجمال هذا المسرود، حيث نجد أن هو النهر: هو تدفق الحياة نفسها واستمراريتها، وتدفق الذاكرة التي لا تتوقف، وهو رمز للخصوبة والعطاء في مواجهة قسوة الحياة وبؤسها.
والشجرة هي الجذور والصمود والذاكرة، إنها تمثل جذور طلال الغوار العميقة في الريف العراقي، كل شجرة تذكرها الذاكرة هي حدث من أحداث الطفولة، رائحة، منظر، أعشاش طيور بناها طلال الغوار يقول: “مرة دفعني هاجس أن أبني(عرزالاً) صغيراً فوق الشجرة، وفعلت ذلك، وقد تمادى خيالي بأن أتآخى مع الطيور” (ص 17).
وهكذا تصبح الشجرة رمزاً للثبات والاستمرارية التي يتوق إليها الإنسان، هي بين ماضٍ مفقود وحاضر غريب.
ونتابع سلسلة الذكريات وكأنها مصورة بعدسة فنان، الذكريات الأولى دخول المدرسة، اكتشاف بغداد في طفولة مبكرة، حصان يطير بأجنحة على ضفتي النهر وابتسامة أبيه مع جملته: (وكيف يطير الحصان؟) حب مريم من الطفولة إلى الشباب، صورة مريم على جدران المدرسة، ذكريات قصيدة التفعيلة الأولى التي كتبها عن مريم. يقول: «إذا جلسنا مرةً لوحدنا.. وراح صوتك الرقيق.. يترجم الغرام كأنه الأمير/ أحسّ يا حبيبتي بأنني أطير» (ص82).
وتتابع وتتوالى الأحداث، مثل سجن الأب لمواقفه السياسية، والأب هنا غالباً ما يكون رمزاً للقوة، والحنان والقيم التي تشكّل الابن. كذلك سنجد بيوت الطين التي تعبر عن البساطة، ويصف لنا المؤلف بيت الطين على أنه أكثر من مجرد مسكن. إنه وعاء الذكريات ورمز للعالم القديم البسيط والنقي قبل التعقيدات الحديثة والتهجير، هذه البيوت تمثل (الوطن الصغير) والدفء والحنان.
سيرة الغوار ليست شخصية بحتة، بل هي مرآة لجيل عراقي كامل عاش حقبة ذهبية ثم دخل في دهاليز الحروب والحصار والمنفى. هو يكتب سيرته ليكتب سيرة جيله، ما يمنح عمله الجميل هذا بعداً إنسانياً واجتماعياً أعمق. هي تأريخ للذاكرة الجمعية.
يقع الكتاب في منطقة وسطى بين السيرة الذاتية التقليدية والمذكرات الأدبية. هو ليس مجرد سرد توثيقي لأحداث حياة طلال الغوار.
يتميز الكتاب بشاعريته العالية وتركيزه على الجوانب الوجدانية والوجودية أكثر من الجوانب السياسية أو الإيديولوجية المباشرة، وجماليته هو أنه ليس سيرة ذاتية تقليدية، بل هو نص تأملي وجودي.لا يروي أحداثاً بل يحفر عميقاً في طبقات الذاكرة.
الكتاب يُقرأ كـ مرثية جميلة لعالم لن يعود.
قدم للكتاب الناقد العراقي الكبير ماجد السامرائي، بمقدمة متميزة قاربت كثيراً المسرود في دفتيه.