الحرية – مركزان الخليل:
ليست هي المرة الأولى التي نكتب فيها عن ” موضوع البالة” بل كتب الكثير عنها، ما بين مؤيد لها ومعارض، وبين ضرورة توافرها من عدمه، فاختلفت الآراء حولها، لكن البالة باقية، وشكلت قطاعاً اقتصادياً مفرداته كثيرة، ورواده أكثر، إلى أن أصبح النشاط الأوسع لشرائح مختلفة من المجتمع، منها ممارسة نشاط يومي بسبب الحاجة، ومنها حالات تحول لكثير من الصناعيين والتجار، بعد إغلاق منشآتهم، تحت ضغط سنوات الحرب الطويلة والعقوبات الاقتصادية التي ظلمت الشعب السوري بكل فئاته وشرائحه، رغم كل ذلك انتشارها كان الأسرع في المدن والأرياف، وروادها أصبحوا ليس الفقراء فحسب، بل الطبقات الغنية أيضاً..!
لكن انتشارها بهذه الصورة المتسارعة بعد عملية التحرير أثار الكثير من حالات الاستغراب، والخوف من قبل الصناع والتجار، وحتى منقبل المواطنين أنفسهم…
“الحرية” حاولت تسليط الضوء على محال البالة في أسواق دمشق، لمعرفة روادها، وحركة التسوق، وغير ذلك كثير، مما يتعلق بقطاع البالة..!
عملية رصد ولقاءات مع مواطنين من مختلف الشرائح، أجمعوا على حالة التنوع الكبير من السلع في محال البالة، والتي لم تقتصر على الألبسة فحسب، بل هناك سلع يحتاجها المواطن تجدها، أيضاً في محال البالة، منها الغذائية ، الكهربائيات وغيرها كثير..!
أقوال والجوهر واحد
“الحرية” كانت متواجدة في بعض محال البالة بأسواق دمشق، حيث التقت الكثير من المواطنين، إجاباتهم حول عملية التسوق من هذا المكان كانت في معظمها مختلفة، لكن الجوهر واحد، ضعف القوة الشرائية، بما معناه؛ (مافي مصاري ..!).
امرأة في العقد الرابع من العمر التقتها ” الحرية” قالت: أشتري لأولادي من البالة، لأنه ببساطة بثمن قطعة واحدة من الماركات أشتري لهم جميعهم، ألبسة جيدة، وأسعارها معقولة ، وهي من مصادر موثوقة، وسيدة أخرى لا تبتعد في رأيها كثيراً عما سبق، فهي تؤكد أن البالة تستطيع حل مشكلات معظم أصحاب الدخل المحدود، وشراء الألبسة الجيدة والتي تستخدم سنوات طويلة، وبأسعار تناسب حالة الضعف في الدخل والوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الأسرة السورية..
وبعض المواطنين ممن التقتهم “الحرية” كان لهم رأي آخر يحمل الرفض كلياً الشراء من البالة لاعتبارها سلعة غير مضمونة النتائج، وتحمل ملوثات، وبعض الأمراض، لذلك نفضل الشراء من المحال التجارية المعروفة، وصناعتها أيضاً معروفة، رغم لجوء البعض إلى أسلوب التقسيط، وعدم اللجوء للشراء من البالة..
آراء مختلفة، لكن الغالبية مع قطاع البالة، ليس للجودة والسعر فحسب، بل لأسباب تعود لضعف القوة الشرائية، التي تلعب الدور الأكبر في حسم الخيارات، ولو كان العكس لاختلفت كل الآراء، وتحسنت خيارات الشراء، وبقيت الصناعة المحلية هي الأساس في عمليات الشراء..؟!
سمحا: سؤال حّير أهل الاقتصاد لماذا نستورد بقايا العالم ونضعها في أسواقنا المحلية..؟!
قديم جديد
نور الدين سمحا عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها رئيس القطاع النسيجي يرى خلال تصريحه لـ”الحرية” أن موضوع البالة ليس بالجديد، باعتباره حالة اجتماعية مربوطة بفئات معينة من الشعب، يحقق لها لباساً معيناً، غير قادرة على شرائه وتأمينه من أسواق أخرى مرتفعة الثمن، لكن بالمقارنة مع أسعار المنتج المحلي فهي مقاربة للسعر، أو أقل منه، وفي حقيقة الأمر البالة مضرة بالاقتصاد والصحة، وخاصة الصناعة المنتجة للسلع المماثلة لمحال البالة..
سمحا: البالة ضرر مزدوج “اقتصادي وصحي” والبديل متوافر من صناعتنا بأسعار مناسبة، وجودة تتماشى مع معيشة روادها
وأنا كصناعي لا أرى فيها الشيء المطلوب، الذي يلبي حاجة المستهلك، وهناك بديل عن البالة، وبأسعار منطقية، ويدعم الصناعة الوطنية، ويحقق سلعة للمستهلك بنوعية وجودة وأسعار أفضل أيضاً، لذلك نرى ضرورة وضع القيود على استيرادها، والتخفيف منها، وهذا يتم من خلال الألبسة المصنعة محلياً، وبأسعار معقولة تتماشى مع مستويات القوة الشرائية..
وأضاف سمحا: نحن إذا نظرنا للبالة كموضوع اقتصادي، فهي تلبي حاجة طبقة معينة من المجتمع، وهذا لن نختلف عليه، لكن بالمقابل لدينا صناعة وطنية، بحاجة للرعاية والدعم، كونها مجالاً واسعاً لاستيعاب العمالة الوافدة لسوق العمل، وبالتالي هنا نستطيع تحقيق دوران لعجلة الإنتاج، ويستفيد منها كل الأطراف “عمالة ومنتجين ومستهلكين” أم يبقى الأمر محصوراً بفئة واحدة “تجار البالة” ،وهذه يجب دراستها والوقوف عندها جيداً كحالة اقتصادية واجتماعية على السواء..!
لفت انتباه
وهنا نريد لفت الانتباه، الى مسألة مهمة جداً، حول مسألة الانفتاح الاقتصادي العالمي التي كانت سائدة في السابق، أما اليوم الدول العظمى وغيرها، بدأت بوضع القيود على المستوردات لحماية صناعتها المحلية واقتصادها الوطني، ونحن اليوم تواصلنا مع الكثير من تجار البالة، لوضع ضوابط محددة، لكن رأيهم مختلف، فهم يرون أنهم يحققون حاجة لشريحة واسعة من المستهلكين، في ظل أسواق مفتوحة، بحجة أن المستهلك هو البوصلة في العمل..
وهذا الأمر لم يقتصر على موضوع الألبسة المستعملة، بل الحكومة اليوم سمحت باستيراد السيارات المستعملة، وهذه حالة مشابهة لحالة الألبسة المستعملة، والسؤال هنا لماذا نستورد بقايا العالم ونضعها في البلد..؟ علماً أننا نستطيع استيراد سيارات جديدة متطورة جداً من الصين على سبيل المثال وبالأسعار نفسها، تلبي حاجة المواطن من جهة، وتحافظ على نظافة الأسواق وقوة الاقتصاد من جهة أخرى، وهذا ينطبق على موضوع البالة، جانب منه يمكن تأمينه منتجاً محلياً وبأسعار مناسبة، وآخر يمكن تأمينه استيراداً ضمن القيود الجمركية المطلوبة ورسوم منطقية تتناسب مع المطلوب..
دعدوش : معظم بلدان العالم تخلصت من منتجات “ستوك” فلماذا ندخلها إلى أسواقنا ونرهق صناعتنا فيها..؟!
منتجات (ستوك)..!
مهند دعدوش عضو غرفة صناعة دمشق، يرى أن البالة في شكلها الحالي، لها تأثير سلبي وكبير على واقع الصناعة الوطنية، لأن معظم البالات هي عبارة عن “منتجات ستوك” في عالم الصناعة والتجارة، وخاصة أن معظم بلدان العالم وخاصة المتقدم منها، ألغت موضوع “البالة” ولم يعد لديها أسواق ” تُفرد” فيها هكذا أنواع من الألبسة، لاعتبارات صحية، وأخرى تتعلق بحماية الصناعة الوطنية، لما تحمله من آثار مدمرة على الواقع الإنتاجي المحلي ..
من هنا نجد ضرورة ملحة لوجود قوانين تمنع تواجدها في الأسواق المحلية، علماً أن هذه القرارات والقوانين في السابق كانت موجودة، والأسواق تضج بأنواع مختلفة من ألبسة البالة، كانت تدخل تهريباً إلى الأسواق المحلية، وتباع بأسعار زهيدة، واليوم لا يوجد تهريب لها، بل تدخل بصورة مستوردات، تُفرض عليها رسوم جمركية، وعلى الرغم من ذلك، فالصناعة المحلية لا تستطيع منافستها..
وأضاف دعدوش في ظل الحكومة الجديدة، وتوجهها باتجاه اقتصاد السوق الحر وانتهاء عمليات الفساد والرشوة، الحل يكمن في إلغاء استيرادها ..
عفيف: الأزمة ساهمت في نمو طبقة من التجار والسماسرة التي تحكمت في أسواق البالة، وزادت من فسادها والتلاعب بأسعارها..!
فقدان الجودة
بدوره الخبير الاقتصادي أكرم عفيف قال في مقاربة لواقع البالة من خلال أهميتها واعتبارها بديلاً وملاذاً لأصحاب الدخل المحدود، ضمن ظروف اقتصادية واجتماعية أكثر من صعبة، واتجاه المستهلك إليها، ليس فقط لرخص أسعارها، بل لأنها سلعة جيدة ومقبولة، تتمتع بجودة تخولها مكانة أفضل من الصناعات المحلية، والتي بدأت تتهالك بسبب فقدان جودتها..
وبالتالي انعدام القوة الشرائية أدى لتحول المستهلكين باتجاه قطاع البالة، وهذا التحول ليس بالجديد، بل يعود لسنوات طويلة، وتحديداً مع بداية الأزمة والتي أصبحت فيها قضايا المعيشة، تشهد تراجعاً بصورة متتابعة، ورافق ذلك نمو طبقة من التجار والسماسرة، تحكمت في تجارتها، الأمر الذي زاد من فسادها والتلاعب بأسعارها خلال المراحل السابقة، واليوم اختلف ذلك بتغيير الظروف، فانخفضت أسعارها إلى مستويات مقبولة تلامس الى حد بعيد مستويات الدخل، الأمر الذي زاد من روادها واتساع رقعة تجارها، وظهور سياسة إعادة تدويرها من بضاعة كبيرة إلى صغيرة، والعكس صحيح، الأمر الذي جعلها من أكبر الأسواق في سورية..
وبالتالي فإننا نجد أن معظم رواد “البالة” هي غالبية الشعب السوري، وهناك فئات محدودة تتجه نحو المحال التجارية والماركات الكبرى، بسبب تفاوت مستويات الدخل وقدرتها على الشراء..!
آلية تسويق
أما فيما يتعلق بتأثير “البالة” على الاقتصاد الوطني فهناك انعكاس سلبي على واقع الصناعة المحلية بسبب حالة الفقر وانعدام القوة الشرائية، وتراجع إنتاجية الكثير من المعامل، وبالتالي إغلاقها ولجوء المستهلك إلى محال البالة..!
وبشكل عام اليوم توجه المستهلك نحو ما يدخل الأسواق من منتجات وسلع، ليس البالة فحسب، بل هناك مواد أخرى غزت الأسواق ملكت المستهلك لانخفاض أسعارها، في الوقت الذي نشهد فيه ضعفاً في طرفي آلية التسويق، الأولى القوة الشرائية، والثانية تراجع الإنتاجية وإغلاق الكثير من المعامل والورش التي كانت تؤمن حاجة الأسواق المحلية، نذكر على سبيل المثال “الفروج” يصل إلى المستهلك بسعر 15 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، في حين المحلي لو تم بيعه بأقل من 22 ألف ليرة المربي خاسر بامتياز، وهذا مجرد مثال لحالات كثيرة من السلع، الأمر الذي يشكل خطورة على الاقتصاد السوري لفقدانه قوة الإنتاج ..
وبالتالي هذه المرحلة تحتاج مقومات تعافٍ اقتصادي في مقدمتها تحسين مستويات الدخل، وانخفاض الأسعار ومكافحة فوضى الأسواق، وتمويل مكونات الإنتاج الزراعي، وإعطاء أسعار مجزية للمحاصيل الزراعية، وإيجاد منتج وطني منافس بالجودة والسعر ليس للبالة فحسب، بل لكل المنتجات التي تدخل إلى الأسواق المحلية، وخاصة أن توجهنا اليوم نحو اقتصاد حر ..