هل الفقر رفيق الإبداع؟ أم الذكاء آلة الثروة؟

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- مجد عبيسي:
في مسرح الحياة، يُطرَح سؤالٌ عميقٌ: على ماذا تعتمد الثروة؟ هل المال يجر المال؟، أم هناك مجموع عوامل تنبت للمرء أجنحة الارتقاء؟
بلسان الثري، فإن الثروة ليست مجرد رصيف من الذهب يلمع في الزاوية، بل هي حصادُ سنواتٍ من الجهد، ومزيجُ ذكاءٍ وإبداع، وتناغمِ عزيمةٍ لا تكلّ، وصبرٍ ممتد.
والحق يُقال إن الذكاء صنعةُ الإنسان، ولكن هل هو ضامنٌ أن يُجبِرَ صاحبه على قنص الثروة؟
لا خلاف أن العمل المستمر والاجتهاد بلا كللٍ، يملّكان المرء من القوة ما قد يفتح أبواب الحظ، لكن هل يكفيان وحدهما؟.. الواقع يضع أكفنا على كثير من الأذكياء يعملون ليلاً ونهاراً، ومع ذلك يظلّ الحصادُ عند جذر الحكاية، مقيداً بقيود القدر، أو بظروفٍ خارج نطاق السيطرة.

ثفافة الفقر

وفيما يمس الثقافة من نصيب الفقر، فقديماً في أروقة الأدب والفكر، كان الفقر أيضاً قضية مثيرة للجدل: هل يرتبط الفقر بالإبداع والأدب؟، وهل الفقر شرط أو ظل ملازم لروح المبدع؟
أقر شعراء العصر الجاهلي، كـ”عمر بن هرمة” و”حاتم الطائي”، بأن الفقر يجعل الشاعر أكثر حساسية وعمقاً.
ولعل ما شفع للقائلين بحتمية اقتران الفقر بالأدب يتجلى في أمور منها: كثرة الأدباء الفقراء، وكثرة الإنتاج الأدبي عن الفقر وآفاته إلى درجة أننا نجد الكثير من الأدباء لا يخلو أدبهم من قصيدة أو مقطوعة شعرية أو مقالة أدبية عن الفقر أو الفقير سواءً أكان الفقير هو الأديبُ نفسه أم كان غيرُه.!
ومما يستدعي إلصاق ظاهرة الفقر بالأدب والأديب أيضاً، هو ظهور جماعة من الشعراء في العصر الجاهلي سُمُّوا لشدة فقرهم بـ”الشعراء الصعاليك”، والصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له، ويقال في اللغة العربية: “تصعلك الرجل” إذا افتقر.
قال محمد بن حمير الهمداني:
غنَيْنَا زماناً بالتصعلك والغِنى
وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابةٍ
غنانَا ولا أزرى بأَحسابنا الفَقر
والشعراء الصعاليك هم جماعة من الفقراء اتخذوا من الترصد بالأغنياء -والأغنياء البخلاء خصوصاً- مهنة لهم، فكانوا يغيرون على قوافلهم، فيأخذون الأموال بالقوة ويقسمونها بين الفقراء والمحتاجين، وامتهنوا النهب بذريعة غياب المال، رغم أن رسالتهم كانت تحمل في طيّاتها نزعة إنسانية للمساواة في عتبة الفقر والعدالة الاجتماعية، بتوزيعهم لأموال الأغنياء البخلاء الذين يضنون على الفقراء بالبذل والعطاء، ما يجعل في ذلك التصرف نزعة إنسانية تتمثل بإحساسهم بمعاناة الآخرين.
والحديث عن أولئك الشعراء وغاراتهم على الأغنياء مثيرة وذات شجون ولها صور فنية، وتعطينا صورة عن طبيعة الحياة والعلاقات الاجتماعية وقسوة البيئة الجغرافية أيضاً في ذلك الزمان الغابر.
وقد سقنا الحديث عن الشعراء الصعاليك لنستدل أن من رأى حتمية التصاق الفقر بالأدباء والشعراء لعله بدأ من الشعر الجاهلي ومن شعر الصعاليك تحديداً.

الفقر فقهاً

ويرى بعض الفقهاء أن الفقراء هم الذين يفتقرون إلى القدرة على توفير احتياجاتهم الأساسية، ويختلف تعريف حد الفقر بين الفقهاء.
فالحنفية يعتبرون الفقير من يملك أقل من نصاب الزكاة أو مالاً لا ينمو، بينما الشافعية يعتبرونه من لا يقدر على توفير كفايته بمال أو كسب، والمالكية يعتبرونه من يملك الشيء اليسير الذي لا يكفيه لمعيشته، والحنابلة يعتبرونه من لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته.

الفقر فكراً

ويرى بعض المفكرين المعاصرين أمثال الدكتور يوسف إدريس في كتابه (فقر الفكر وفكر الفقر) الصادر عام 1985 أن الفقر عبارة عن مرض، يقول:
“.. فالفقر له فكر معين، وحين أقول الفقر لا أعني شدة الاحتياج فقط، ولا أعني هبوط المستوى المادي لمجتمع إلى مستوى أقلّ من مثيله في البلاد الأخرى. ولكن الفقر المادي الحقيقي قد يكون لأناس ميسوري الحال، ولكن طريقتهم في التصرّف في ثرائهم فقيرة..
إِنَّ الفقر ليس وضعاً اقتصادياً فقط، إنه حالة من حالات البشر، وضع عام يتصرّف فيه الإنسان بفقر، ويفكّر بفقر بأفكار تؤدّي إلى فقر أكثر واحتياج للغير، بمعنى آخر هو مرض يُصيب الاقتصاد ويصيب العقول ويُصيب الخيال”. هذا يدل أن الفقر ليس أصلاً للمادة، وإنما طور معنوي يُتَرجَم من خلال الظروف، فليس الفقر إلا حالة انجراد نفسي يرافق الحالة المادية، وليس شرطاً في وجود الإبداع، “بالعودة إلى تلك النقطة”.. وإنما قد يكون حاضناً له، إذ يَبرز الجمال والموهبة أحياناً من رحم المعاناة.
المال يُعطي الحصانة، لكنه لا يُنمي الروح، ولا يصنع الفكر، إلا إذا أُحسن استثمارُه، وإذا وُجد الذكاء الذي يوجهه بحكمة.
وتبقى الثروة الحقيقية هي تلك التي تشتمل على العلم، والخلق، وقوة الإرادة، ومرونة العقل. فالمبدع والغني قد يلتقيان، لكنهما ليسا من صنف واحد دائماً، إلا إذا استثمرَ كل منهما في تطوير ذاته، وأطلق العنان لمصباح المعرفة والإبداع.

Leave a Comment
آخر الأخبار