الحرية- إلهام عثمان
لم تعد التكنولوجيا حكراً على المنازل أو أماكن العمل، بل تغلغلت بعمق في نسيج حياتنا اليومية، حتى في أكثر تفاصيلها بساطة كالأماكن العامة، فأصبح مشهد الأشخاص الذين يمشون ورؤوسهم منحنية نحو شاشات هواتفهم أمراً مألوفاً، متجاهلين ما يحيط بهم من طرق مزدحمة وإشارات ضوئية، في تفاعل مستمر مع عالمهم الرقمي الصغير.
ومع السعي المحموم نحو التحديث والتطور، هل وقعنا حقاً في فخ الخلط بين الاستفادة الرشيدة من التكنولوجيا والاعتماد الكلي عليها، ما أفقد البعض القدرة على التعامل مع مواقف حياتية بسيطة دون وساطة شاشة هواتفنا.
أم هادي تقول لـ”الحرية”: أشعر بالوحدة لان أبني دائم الانشغال في شاشته الصغيرة، بينما أضافت نهلا: أعتمد في عملي ودراستي على هاتفي كثيراً لدرجة أنني أشعر بأنني منفصلة تماماً عن المحيط.
جاد الله: أهمية “فصل” أنفسنا عن الشاشات من حين لآخر للاستمتاع بمتعة الحياة البسيطة والتواصل الحقيقي مع من نحب
عزلة رقمية
في هذا السياق، يشير اختصاصي علم النفس الاجتماعي الدكتور ناجي جاد الله من خلال حوار مع ” الحرية”، إلى أن الانغماس في الأجهزة الذكية أثناء التنقل يعكس تراجعاً في قدرتنا على التواصل البشري المباشر، ما يعمق الشعور بالعزلة على الرغم من الاتصال الافتراضي المستمر، لذا يتوجب علينا استعادة التوازن بين تفاعلاتنا الواقعية والرقمية لتجنب الوقوع في فخ العزلة الرقمية.
من جانبه يوضح عماد أبو الشامات خبير السلوك البشري، أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية في الأماكن العامة يسهم في خلق حاجز اجتماعي، حيث يفضل الأفراد الانشغال بشاشاتهم على التفاعل مع من حولهم، لافتاً إلى أن هذا النمط السلوكي قد يؤدي إلى ضعف المهارات الاجتماعية الأساسية ويقلل من فرص بناء علاقات مجتمعية قوية.
أبو الشامات: الاستخدام المفرط يؤثر سلباً على الوعي المكاني والإدراك البيئي، ما يزيد بشكل كبير من احتمالية التعرض للحوادث والإصابات
خطر محدق
علاوة على ذلك، تؤكد الدراسات الحديثة، وفق رأي أبو الشامات، أن الاستخدام المفرط للهاتف المحمول أثناء المشي أو التنقل في الشوارع، يمكن أن يؤثر سلباً على الوعي المكاني والإدراك البيئي، ما يزيد بشكل كبير من احتمالية التعرض للحوادث والإصابات.
لافتاً إلى أن الانشغال الرقمي يحول التركيز عن البيئة المحيطة، ويضعف من قدرة الإنسان على الاستجابة السريعة للمواقف الطارئة، وهو أمر لا يقتصر على الأطفال أو الشباب فقط، بل يمتد ليشمل جميع الأعمار.
انعكاسات صحية
وفي ذات السياق يضيف اختصاصي الأمراض العصبية ساهر العلي أن استخدام الهاتف الذكي أثناء المشي، يقلل من نشاط العضلات في الأطراف السفلية مثل عضلة الظنبوب الأمامية، وعضلات الساق، والعضلة المستقيمة الفخذية، والعضلة الألوية الكبرى والمتوسطة، وأن سرعة المشي تنخفض بشكل ملحوظ عند استخدام الهاتف، ويزداد انثناء الرقبة بشكل كبير عند استخدام الهاتف، ما يشكل خطراً من الإصابة بمشاكل الجهاز العضلي الهيكلي في الرقبة والظهر.
متلازمة الرؤية الحاسوبية
كما يحذر العلي، من أن التركيز المطول على شاشات الهواتف الذكية، خاصة في ظروف الإضاءة المتغيرة أثناء المشي، يجهد العينين بشكل كبير، وقد يؤدي إلى متلازمة الرؤية الحاسوبية، التي تتضمن جفاف العين و إجهادها، وحتى تشوش الرؤية، لافتاً إلى أن هذا التأثير يتفاقم مع قلة الرمش وعدم أخذ فترات راحة كافية.
تأثير التكنولوجيا على السمع
أما عن الجانب السمعي، فيشير خبير الصوتيات، محمد هبور، إلى أن الاستماع المستمر للموسيقى أو المكالمات عبر سماعات الأذن أثناء التنقل يعزل الفرد عن الأصوات المحيطة المهمة، مثل أبواق السيارات أو تحذيرات المشاة الآخرين، وبالتالي يقلل من الوعي بالمخاطر المحتملة في البيئة الخارجية، ما يزيد من فرص التعرض للحوادث.
وعي وتوازن
ويضيف هبور: إنّ هذه الظاهرة تفرض تحدياً كبيراً على المجتمعات الحضرية، على سبيل المثال، في بعض الثقافات ذات التعداد السكاني الكبير، تم تخصيص ممرات خاصة للمشاة الذين يستخدمون هواتفهم الذكية في محاولة للحد من الحوادث، ما يعكس حجم المشكلة وتأثيرها على التخطيط العمراني.
هبور: الهوس في استخدام للهواتف في الأماكن العامة يقلل من الوعي بالمخاطر المحتملة، ما يزيد من فرص التعرض للحوادث.
في العصر الرقمي
وختم جاد الله: إن التكنولوجيا أداة لخدمة الإنسان، وليست بديلاً عن التفاعل البشري المباشر أو الوعي بالبيئة المحيطة، وهذا يتطلب حملات توعية مكثفة، والأهم من ذلك، لابدّ من الوعي بأهمية “فصل” أنفسنا عن الشاشات من حين لآخر للاستمتاع بمتعة الحياة البسيطة والتواصل الحقيقي مع من نحب.