يعدّ ملف ودائع البنوك السورية في لبنان ، أحد أكثر الملفات المالية حساسية في السنوات الأخيرة، لما له من أثر مباشر على استقرار النظام المصرفي السوري وثقة المودعين، فمع تراكم الأزمات الاقتصادية في لبنان منذ عام 2019، برزت قضية الانكشاف المالي للمصارف السورية على نظيرتها اللبنانية، كأحد التحديات الكبرى التي يتعين التعامل معها بحذر وواقعية، خاصة مع إعلان مصرف سورية المركزي حجم هذا الانكشاف الذي بلغ نحو 1.6 مليار دولار.
وأكد الخبير الاقتصادي الدكتور محمد علي أن تصريح حاكم مصرف سورية المركزي، حول هذا الرقم يعني أن عدداً من المصارف الخاصة في سوريا كانت قد وضعت توظيفات مالية وأموالاً في المصارف اللبنانية خلال السنوات الماضية، نتيجة غياب البدائل المصرفية الآمنة في ظل العقوبات المفروضة، ما جعل النظام المالي اللبناني في تلك الفترة المنفذ الوحيد أمامها.
مخاطر تركز الاستثمارات
وأوضح محمد أن الانكشاف المالي لا يعني فقط وجود أموال في الخارج، بل يشير إلى تعرض المصرف لمخاطر مالية نتيجة تركّز استثماراته أو توظيفاته في جهة واحدة أو قطاع محدد.
لافتاً إلى أن مبلغ 1.6 مليار دولار، مقارنة بإجمالي ودائع البنوك التجارية السورية البالغ نحو 4.9 مليارات دولار، يمثل ما يقارب 33 بالمئة، وهو رقم كبير نسبياً.
مشيراً إلى أن مفهوم الانكشاف المالي لا يعني فقط وجود أموال في الخارج، بل يشير إلى تعرض المصرف لمخاطر مالية نتيجة تركّز استثماراته أو توظيفاته في جهة واحدة أو قطاع محدد، الأمر الذي يزيد احتمال حدوث خسائر في حال وقوع أزمات.
مؤشرات انهيار كانت واضحة
وبيّن أن الأزمة اللبنانية التي اندلعت منذ عام 2019 جاءت نتيجة سياسات مالية متراكمة، إذ قام مصرف لبنان المركزي بتمويل الموازنات العامة المتعاقبة منذ تسعينيات القرن الماضي، ما أدى إلى تضخم العجز العام الذي تجاوز 180 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت مؤشرات الانهيار واضحة منذ سنوات.
خطة الهندسات المالية
وأشار إلى أن ما جذب بعض المودعين السوريين ومنهم المصارف، إلى وضع أموالهم في لبنان هو ما يعرف بـخطة الهندسات المالية التي أطلقها مصرف لبنان عام 2016، والتي كانت تهدف إلى استقطاب الودائع مقابل فوائد مرتفعة جداً.
وأضاف الدكتور محمد أن مصرف سوريا المركزي، كان قد طلب بعد الأزمة اللبنانية من المصارف السورية تكوين مخصصات مالية، تعادل 30 بالمئة من إجمالي الودائع المكشوفة على المصارف اللبنانية، فيما بقيت النسبة المتبقية على مسؤولية مجالس إدارات تلك المصارف.
وأشار إلى أن المصرف المركزي اليوم، وبعد مرور نحو ست سنوات على الأزمة، قرر اعتبار هذه الأموال بمثابة خسائر، معتبراً أن هذا التوصيف غير دقيق تماماً”، إذ يرى أن هذه الأموال أقرب إلى الودائع المجمدة منها إلى الخسائر الفعلية.
واعتبر محمد أن خطوة مصرف سوريا المركزي في هذا الاتجاه “محقة ومطلوبة”، كونها تهدف إلى إعادة جدولة وهيكلة الديون الموجودة لدى المصارف السورية والاعتراف الكامل بحجم المشكلة، لكنه دعا في المقابل إلى ضرورة أن يتمتع المركزي والمصارف المعنية بـالمرونة الكافية لوضع خطة محكمة ومدروسة تتيح معالجة هذا الملف بشكل تدريجي.
وأوضح الخبير المصرفي أنه على المصارف السورية التي لديها انكشافات مالية في لبنان، وضع آلية واضحة تحدد كيفية التعامل مع هذه الأموال، سواء عبر التعاون مع المصارف اللبنانية لاستعادة جزء منها تدريجياً خلال 3 إلى 5 سنوات، أو من خلال الدخول في شراكات مع مستثمرين جدد، بما في ذلك طرح أسهم جديدة لتقوية رأس المال.
القطاع المصرفي الخاص في سوريا أحد أهم المستثمرين العاملين
وختم الدكتور محمد بالقول إنّ القطاع المصرفي الخاص في سوريا، يعد أحد أهم المستثمرين العاملين في البلد منذ نحو عشرين عاماً، مشدداً على أن معالجة هذه الأزمة تتطلب تفاهمات واقعية ، وتعاوناً بين مصرف سورية المركزي والمصارف الخاصة، بهدف الوصول إلى حلول عادلة ومتوازنة ، ترضي جميع الأطراف وتحافظ على استقرار النظام المالي والائتماني في البلاد.
نقطة تحول
إن خطوة مصرف سورية المركزي الأخيرة في التعامل مع ملف الودائع المجمدة في لبنان تمثل نقطة تحول في إدارة المخاطر المصرفية السورية، إذ إنها لا تكتفي بالاعتراف بالمشكلة، بل تفتح الباب أمام إصلاح هيكلي أعمق في العلاقة بين المصارف المحلية والمنظومة المالية الإقليمية، فنجاح هذه الخطة لن ينعكس فقط على ميزانيات البنوك، بل على ثقة المستثمر والمودع السوري، ما يجعلها اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام المصرفي على إعادة التموضع بثبات ومرونة في مرحلة ما بعد الأزمات.
الحرية – نهلة أبوتك