الحريّة – ميليا اسبر:
عانى حوالي نصف السوريون ونيف خلال سنوات الحرب الطويلة اضطرابات نفسيّة متفاوتة الشدّة، حيث لم يبق منهم إلاّ ورأى مشاهد القتل والدم والتهجير، إضافة إلى النصف الأخر الذي عانى من فقدان الأهل والأحبة، كما هيأت الحرب أيضاً المناخ المناسب لانتشار الإدمان على المخدرات، خاصة بين فئة الشباب وهناك الكثير ممن وقعوا ضحية ذلك، كل تلك المشاهدات كانت كفيلة بزعزعة صحة السوريين النفسية.
مدمن مخدرات
بحزن شديد تتحدث الأم ( سهام ) لـ” الحريّة” عن إدمان ابنها البالغ من العمر 29 سنة على المخدرات، لم تعلم بإدمانه إلا منذ سنة تقريباً لكون ولدها يعيش مستقلاً عن الأسرة منذ تسع سنوات، وهو طالب هندسة معلوماتية سنة رابعة، مشيرة إلى أنها لم تتوقع يوماً أنّ ابنها الشاب الذكي الذي كان يعمل في مجال العقارات أن ينتهي به المطاف إلى الإدمان ودخوله في حالة اضطراب نفسي شديد بعد توريطه من قبل أصدقائه بتعاطي المخدرات، لافتة إلى أن ولدها وصل إلى مرحلة متقدمة في الإدمان وبات يشكل خطراً على من حوله، فعندما يطلب أموالاً لشراء المخدرات ونمتنع عن إعطائه سرعان ما يتهجم علينا.. “لدرجة أصبحنا نخاف من أن يرتكب جريمة قتل”، منوهة بأنها زارت عيادة الطبيب النفسي منذ فترة قصيرة لشرح حالة ولدها لعلّها تستطيع إنقاذه قبل فوات الأوان..
خسر كل شيء
بينما يروي بألم المهندس المتقاعد محمد موسى، البالغ من العمر 65 سنة، ما آلت إليه أحواله فقد تهجر من محافظة دير الزور الواقعة في شرق سوريا، وقد كانت أوضاعه المادية قبل الحرب ممتازة ولديه أملاك كثيرة، إلاّ أنه خسر في الحرب كل ما يملك، ليجد نفسه بائع بسطة صغيرة لتأمين قوت يومه.. إضافة لخسارته أحد أبنائه في الحرب وتشتت بقية أولاده في بلدان مختلفة، وهذا ما سبب له أزمة نفسية، حيث إنه بين فترة وأخرى يراجع العيادة النفسية من أجل استكمال علاجه بناء على تعليمات طبيبه.
يقول الاختصاصيون في الطب النفسي: إن السوريين عاشوا خلال سنوات الحرب ولا يزالون صدمات نفسية متفاوتة الشدة… ويرون أن الاضطرابات النفسية لم تتوقف هنا.. فالخوف من المستقبل أوجد حالة رعب هستيرية لدى الناس.. وبالتأكيد هذا زاد من احتمالية تفاقم الوضع النفسي لديهم.
أستاذ الطب النفسي في جامعة دمشق سابقاً الدكتور رمضان محفوري أوضح في تصريح لصحيفتنا ” الحريّة” أنّ أي حرب سواء كانت اجتماعية – سياسية – عسكرية – اقتصادية أو بيئية (الزلزال والبراكين) تترك آثاراً مختلفة بين الشديدة والمتوسطة والخفيفة .
متفاوتة الشدّة
وأشار إلى أن النسب العالمية للإصابة بالاضطرابات النفسية الشديدة في الحالة الطبيعية لأي مجتمع تتراوح بين 3- 5 % ، بينما في حالة الأزمات تصل إلى ما بين 6- 8% ، وفي حال استمرت زمناً طويلاً، كما حدث في سوريا ربما تصل بين 10- 12 % .
أمّا الاضطرابات النفسيّة المتوسطة الشدة تتراوح بين 10 – 12 % في المجتمعات التي تعيش حالة طبيعية، بينما في الحروب تكون بين 15 – 18 %، لكنها في سوريا تجاوزت كل تلك النسب و وصلت حتى 25 % .. وهذا شيء خطير ومقلق.
د.محفوري: الأمراض النفسية انعكست على الحياة اليوميّة بأسوأ ما يمكن على أداء العمل
أمّا الاضطرابات النفسية الخفيفة هي عبارة عن الصدمات الخفيفة التي تصاب بها عامة الناس نتيجة الضغوطات الاقتصادية، وكذلك ضغوطات العمل والتهجير القسري من مكان لآخر، حيث وصل السوريون إلى أقصى بقاع الأرض، وتعرضوا لخسارات مختلفة سواء منها فقدان الأبناء والأصدقاء والأهل…الخ، منوهاً بأنه حتّى بعد انتصار الثورة للأسف جاء موضوع خسارة العمل، فهناك مئات الآلاف ممن خسروا دخلهم سواء من المتقاعدين وغير المتقاعدين وبين العسكريين والمدنيين فكل تلك الاضطرابات أثرت على الصحة النفسيّة لهؤلاء الأفراد وعلى المجتمع ككل، مضيفاً أنّ الأمراض النفسية انعكست على الحياة اليوميّة بأسوأ ما يمكن على أداء العمل، كذلك انعكست بشكل سلبي على العلاقات الاجتماعية حتى بين الأهل والإخوة والأقارب والأصدقاء.
يحتاج وقتاً
يتابع محفوري حديثه بأنّ المصاب بأزمة نفسية يحتاج وقتاً ليندمج بالمجتمع، ولكن هذا يتعلق بنوع وشدّة الاضطراب النفسي الذي تعرّض له، مثلاً الاضطرابات الخفيفة الناتجة عن الضغوطات النفسية قد تعود إلى الحالة الطبيعية بعد زوال المؤثر بأسابيع وربما أشهر قليلة، وبعض الحالات قد تستمر إلى سنوات وهنا يجب أن نعلم أن مجتمعنا السوري سيعاني لمدة جيلين أو أكثر من الاضطرابات النفسية مقارنة مع البلدان المتساوية مع سوريا من حيث عدد السكان و الظروف الاجتماعية التي لم تتعرض لمثل هكذا أزمة اجتماعية وهنا نتكلم عن مدة زمنية تتراوح بين ٢٥ – ٣٠ سنة.
الحرب لا تزال مشتعلة
بدوره رئيس رابطة الأطباء النفسيين سابقاً الدكتور هيثم علي أوضح لصحيفة ” الحريّة” أن أعراض اضطرابات ما بعد الشدّة القلق والخوف الدائم من كل شيء، فجميع السوريين في الوقت الحالي خائفون من المجهول مع غياب الأمان، وأيضاً الخوف من استمرار الحرب وتصعيدها بأشكال مختلفة.
د. علي: الصحة النفسية ليست رفاهية وإنما حاجة حقيقية من أجل بناء إنسان سليم نفسياً
لا إحصائيات رسمية
وذكر د.علي أنّه لا توجد إحصائيات في سوريا عن الذين تعرضوا لإصابات نفسيّة خلال الحرب، إلاّ أنه حسب التقارير والمشاهدات تقدر نسبة السوريين ممن تعرضوا لضغوطات نفسيّة بحوالي 60% ، إضافة إلى مواضيع الفقر- البطالة- المخدرات – التعاطي هذا شكل آخر من الضغط النفسي، لكن عندما يكون هناك اضطرابات عميقة مثل الفصام واضطراب مزاج ثنائي القطب هذه الأنواع من الاضطرابات تحتاج استشفاء، علما أنّ النظام الصحي السوري أصبح متهالكاً بعد 14 عاماً من الحرب، من هنا يؤكد د.علي ضرورة وجود فريق نفسي بكل مدينة سورية مهمته أن يرسم سياسة الحاجات الأساسية للاستشفاء، وكذلك للحالات المرضية الكبيرة التي تفاقمت، منوهاً بأن الصحة النفسية هي معيار أساسي لصحة الحياة أي القدرة على التوازن بحيث يكون الفرد فعّالاً ومنتجاً، إلا أنّ أساسيات الصحة النفسية غير متاحة لجميع الأفراد ولا تقدّم إلا بالشكل الضئيل بسبب ضعف الإمكانات و نقص الكادر الطبي، فمثلاً قبل الحرب، كان يوجد 80 طبيباً نفسياً ففط على مستوى سوريا، وخلال الحرب انخفض العدد إلى النصف وبهذا العدد القليل جدّاً لا نستطيع تقديم الخدمات الطبية النفسية بأكثر من 5- 10 % ، لكن رغم ذلك تابعنا العمل وتم تدريب فرق من حملة شهادة علم النفس على تقديم الخدمات النفسية لتعويض النقص الحاصل، إضافة إلى وجود منظمات خارجية ساعدت في هذا الموضوع، لافتاً إلى أنه مع ذلك كل هذا لا يشكل سوى جزء بسيط من احتياحات الشعب السوري النفسية، مطالباً بخطة وطنية (سياسية – اقتصادية – صحية – اجتماعية) للعمل على كل الجغرافية السورية التي طالتها الحرب دون استثناء بشكل أو بآخر بحيث ندرس كيفية تقديم الخدمات ونبدأ من هرم ماسلو (حاجات الإنسان الأساسية) من طعام وشراب ومأوى، منوهاً بأن منظور الصحة النفسية ليس رفاهية وإنما حاجة حقيقية من أجل بناء إنسان سليم نفسياً لكي يستطيع الاستمرار في الحياة .
أقرب للشكوى الإنسانية
لم تعد زيارة عيادة الطبيب النفسي وصمة عار كما كانت سابقاً، الوصمة مازالت موجودة لكن بشكل مختلف عما قبل الحرب، فقد أصبحت أقل إحراجاً للمريض أو لأهله، ولم تعد تتم بشكل سري لأن جميع السوريين أعلنوا تعبهم النفسي وهذا ما خفف من حالة الإنكار للمشكلة، لأن ما يمر به الشخص هو جماعي وليس فردياً، وهذا يجب استثماره لدعم ما نقدمه من جهود وجعل تقديم الخدمة النفسية مثل باقي الخدمات الصحية أو الاجتماعية حسبما قاله د.علي منوهاً بأنّ أغلب مراجعي عيادته هم من حملة الشهادة الجامعية..أطباء ، مهندسين…إلخ لذلك يجب ألاّ نعتبر أن الذهاب للطبيب النفسي هو مرض نفسي بل هو أقرب للشكاوى الإنسانية.
وختم بالقول: الحرب تسببت بكثير من الخسائر للسوريين أهمها صحتهم النفسية لذلك نقول لا يوجد رابح في الحروب، وإذا كانت الحرب بين أبناء البلد تكون الحالة أكثر خطورة، لذلك يجب أن نوقف كل أشكال الحروب.. ونبدأ باحترام الآخر من دون أن نكون أوصياء على أحد، وهذا ما يوفر الألفة والمحبة بين أبناء البلد لأنه بالحب فقط يمكن أن نبني إنساناً صحيح الأخلاق والنفس.