الحرية- حوار: ميسون شباني:
“لا شيء أكثر قهراً من أن تجد نفسك تكتب دون قرار مسبق نصَ الفجيعة.. بقيت أكتب وأدون للشام هي بوصلتي ومستقري وكيفما أنظر وأتلفت أراها”.. هكذا يرى الأديب علي سفر معشوقته سوريا التي غادرها منذ ما يزيد على اثني عشر عاماً.. قدم خلالها منجزاً شعرياً وروائياً يخص الدم والألم السوري فاصدر: “يوميات ميكانيكية، على هامش الحريق السوري ،الفهرس السوري، الطريق إلى متحف الٱثام”.. وكتب في السينما وعوالمها والصحافة وغيرها، وكان قد تسلم منذ عدة أعوام رابطة الأدباء السوريين..
علي سفر آمن بالثورة والتحرير وقطف ثمار الانتصار من نضاله بالقلم والفكر وخص (الحرية) بهذا الحوار:
فسحة حرية
* في عام 2013 غادرت سوريا مضطراً، ماذا حدث في ذلك التاريخ؟ ولماذا لم تعد إليها بعد التحرير؟
** في بداية عام 2013، وبعد سنة من صدور قرار أمني بمنعي من السفر خارج سوريا، علمت أن القرار قد تحول إلى إشعار بإلقاء القبض عليّ، وجَلْبي مخفوراً إلى فرع الأمن السياسي في دمشق. نبَّهني صديق إلى أن هناك من يسأل عن وجودي في مبنى التلفزيون، وصار الشك شبه مؤكد، فحاولت التواري حتى لا تطالني الحواجز، وبدأنا، على مستوى العائلة، نحضِّر أنفسنا للأسوأ. كان علينا أن نمرر الوقت حتى تنتهي مدارس الطفلين، ومن ثم نرى إمكانية المغادرة.
وفعلاً، هذا ما جرى، حيث تدخَّل أحد الأصدقاء لمساعدة زوجتي الإعلامية زويا بوستان في الحصول على إجازة تتيح لها السفر إلى الأردن. وبعد أن غادرت مع ولديّ، توجَّهتُ، بمعونة صديق عزيز، إلى السويداء ثم إلى درعا، حيث اجتزت الحدود، وصرت لاجئاً. ومنذ ذلك الوقت، وأنا أنتظر لحظة الحرية كي أعود إلى سوريا ودمشق، لكن بعد مدة طويلة من العمل الإعلامي في تركيا، استقرَّ بنا المقام في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ونحن الآن في انتظار قرار من السلطات المانحة للجوء، يسمح لنا بالعودة دون أن يختل الوضع القانوني للإقامة.
حلة الألم السوري
* خلال الفترة الممتدة من 2013 حتى الآن، قدَّمتَ سلسلة غير مسبوقة عن رحلة الألم السوري عبر ثلاثة إصدارات أدبية. هل تعمَّدتَ محاكاة هذا الوجع بإسقاط أدبي وشعري؟
** في البداية، كنت أدوِّن اليوميات بأسلوب أدبي كي لا أجد نفسي في مواجهة مع الأمن، إذ دأب المخبرون على كتابة التقارير عن أنشطتي. روى لي أكثر من صديق أن المحققين كانوا يسألون عني، رغم أنني خضعت لتحقيقين أمنيين في عامي 2011 و2012. بعد فترة، وجدت أن التدوينات تحوَّلت إلى سياق كامل من النصوص.
في عام 2012، تلقيت دعوة للمشاركة في مهرجان قصيدة النثر في القاهرة، لكنني لم أتمكن من السفر بسبب قرار منع السفر، فشاركَت نصوصي في احتفال بميدان التحرير. قام الصديق الناقد والإعلامي زاهر عمرين بإضافتها إلى كتاب مهم بعنوان “سوريا تتحدث”، الذي صدر باللغتين العربية والإنجليزية.
بعد خروجي من سوريا، استعدتُ النصوص من الصديق الكاتب الأردني محمود منير، الذي قام بحفظها خشية أن أفقدها خلال عملية تنظيف الحاسوب من الملفات التي قد تثير الأسئلة في التحقيق، في حال تم اعتقالي. قدَّمتُ النصوص للنشر، فصدرت بعنوان “يوميات ميكانيكية” عام 2014، ثم تبعها “الفهرس السوري” بعد أربع سنوات، وأخيرًا “الطريق إلى متحف الآثام”.
لماذا أسرد لك سيرة هذه الكتب الثلاثة؟ لأنها ولدت من رحم المسار الشاق، في رحلة اللجوء الطويلة التي لم تنتهِ حتى اللحظة.
لا لموت الحكايات الصغيرة
* هل يمكن تصنيفها ضمن أدب الرحلات، خاصة أن الإصدارات الثلاثة مترابطة؟
** يمكن اعتبارها رحلة، لكن أدب الرحلات يتميز بأن كُتَّابه ينقلون للقراء ما يكتشفونه، ويروون بشغف عن المفاجآت التي يواجهونها. أما في هذه الكتب، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل ثمة ما يستحق أن يُشغف القارئ به؟ تلقِّي الشذرات المركزة عن المأساة السورية يحتاج إلى قارئ يعزل نفسه عن آلامها، وهو أمر يصعب أن نجده عند أي شخص حول العالم، إلا إن كان متبلد المشاعر والأحاسيس. هذه الكتابة ليست سهلة، بل هي تعذيب حقيقي، يجد المرء نفسه غارقًا فيه، لأنه يريد ألَّا تموت الحكايات الصغيرة التي عاشها السوريون، دون أن تُروى بأي طريقة ممكنة.
الألم والإبداع
* التحولات في سوريا والتدوين في المنفى، هل تصح عبارة “من الألم يولد الإبداع” في حالتك؟
** العبارة تقليدية، لكنها تعبِّر عن جانب من العلاقة بين الكاتب، والمنفى، والوطن! لم أعتبر أنني في المنفى بإرادتي، ولهذا أسميته “حادثة” وقعت رغماً عني، ولم أنجُ من تبعاتها. كلما اتسعت مأساة البلد، كانت المشاق تتعاظم.
التواصل بين المنفى والناس في الداخل يمكن أن يخفف من حدة الأمر، لكن الأجهزة الأمنية كانت تحصي أنفاس معارفي، وكانوا يخشون الاستدعاء الأمني في حال ثبت تواصلهم معي. لهذا جربت أن أصمت عن التواصل، وصار الأمر عادة. إلى اليوم، حين أتحدث إلى صديق في الداخل، أذكِّره بأنها نعمة حقيقية. ما تعرض له السوريون يتجاوز الألم بكثير، كان الأمر إبادة حقيقية، نال كل واحد منا نصيباً منها، بغض النظر عن المكان الذي عاش فيه خلال سنوات الكارثة.
وجهة نظر سينمائية
* حتى السينما كانت لها نصيب في إبداعك. هل كان الهدف توثيق رحلة الشتات واللجوء عبر عدسة السينما؟
** في المنفى، يستيقظ لديك الإحساس بضرورة البقاء على تواصل مع ماضيك، كي تراجعه وتفهم كيف انتهينا إلى هذه النتيجة الدموية. بدأ الأمر مع كتاب “حبر الشاشات المطفأة”، الذي قدَّم وجهة نظر مختلفة عن الرواية الرسمية لتاريخ السينما السورية. التحرر من النسق السائد في القراءات حول السينما السورية يقود إلى اكتشاف أن التاريخ السوري، عموماً، كُتب بحبر مستأجر. كانت الرواية الرسمية تزعم أن البعث هو من صنع الحياة في سوريا، لكن الوقائع تقول العكس، وتكاد تثبت أنه هو من دمَّرها. جاءت المرحلة الأسدية لتجد أن القوانين تتيح لها تدمير أي محاولة لصناعة سينما حقيقية.
في الطبعة الجديدة للكتاب، ستتضح تفاصيل جديدة عن الأثر المدمر للسلطة الأسدية على مسار السينما السورية.
نضال أدبي
* أنت رئيس رابطة الكُتَّاب السوريين. ما مصير الرابطة في الفترة المقبلة؟ وما هي خططكم المستقبلية؟
** رابطة الكتَّاب السوريين وُلِدَت في وقت مبكر من مسار الثورة، في مصر، على يد نخبة من المثقفين السوريين، وكانت تستعيد تجربة الرابطة السورية في خمسينيات القرن الماضي. لم يكن مسار الرابطة مفروشاً بالورود، فقد واجهت التحديات التي مرت بها معظم المنظمات السورية البديلة عن النقابات والاتحادات التي كانت تخضع لحزب البعث المنحل. في النصف الثاني من عمرها، تحولت إلى منظمة تطوعية بالكامل، إذ لا يتقاضى أي من أعضاء أمانتها العامة أو مكتبها التنفيذي أي تعويض عن عمله.
حصلت الرابطة على تراخيص في بريطانيا وفرنسا، ومع لحظة التحرير، تداعى أعضاء المكتب التنفيذي لوضع خطة انتقال إلى سوريا. هذا يحتاج إلى جهود الأعضاء الذين عملوا في الرابطة بصمت.
وفي الختام
الجدير بالذكر أن الكاتب علي سفر عمل في المسرح السوري، واشتغل بالكتابة الصحفية منذ نهاية الثمانينيات، حيث كتب في الصحافة السورية والعربية، وخاصة الصحافة المرئية، وأخرج أفلاما وثائقية. وعمل مديراً للبرامج في قناة سوريا دراما منذ انطلاقتها لكنه استقال منها في نهاية العام 2011.