علي الراعي:
إنه الخطُّ بالألم وليس بالقلم كما قد يتسارع المعنى إلى الحضور الذهني، ففي أيام “الهول” تكتب الأقلامُ كثيراً حتى إن تشبيه الحبر أو المداد بماء البحار، لم يكن ناشزاً عن الواقع، وتلك الكتابات كان يختص بها المؤرخون والأدباء والشعراء، حتى زاحمهم الإعلاميون على صفحات المجلات والجرائد وقد توفّر الحبر والمداد لكتابة المطوّلات وإيراد التفاصيل وذكر الحيثيات ودحض بعض الوقائع والمسمّيات، أما من أتى “الأهوال” بريشته وألوانه فله شأن آخر، لأنّ اللوحة كثيرة الزوايا لكنها ليست متعددة الصفحات! إنها فراغٌ أبيضُ واحدٌ محدود، سيخطُّ عليه الفنان ما احتوته المجلّدات التي كُتبت عن الحدث، وعبر كلّ خطٍّ مرسوم سيشهد المتأمّلُ الزمانَ على سعته وكلَّ التفاصيل التي جرت فيه من عزةٍ وبسالةٍ أو خذلانٍ ويأسٍ!
يعرف الشاهدُ كلَّ ما جرى لأنه يشاهد ويسمع لكنه يقف أمام خطوط اللوحة متأملاً بعمق تلك الوجوه المعبّرة، وهي وجوه يعرفها في الواقع، لكنها صارت بملامح أخرى تنفذ إلى الوعي كأنها الصورة الخالدة للعذاب البشري الذي لا نفاد له منذ خلق البشرية وسيرِها على درب الآلام! ولافتٌ أن الفنان يهتمُّ بالعيون وصرخة الفم وتقلُّص الشفتين وفيها يضع كل الأحداث الواقعية التي عاشها بحواسه!
لماذا يكثّف الفنان كل أهوال العذاب في العينين؟ ألأنهما تريان شبوب النار وفراق الأحباب وبعد الرؤية تمتدُ التراجيديا الطافحة بالدموع؟ لماذا الاهتمام والعناية بالصرخة خاصة على قسمات طفلٍ أو أم؟ (هكذا كانت اللوحات الخالدة بدءاً من “غورنيكا” “بيكاسو” وليس انتهاءً باللوحات التي تزهر على ضفاف فلسطين) هل لأنّ الصرخةَ اختصارٌ لآلام الروح قبل الجسد؟!
لم يعد الخطُّ شُغْلاً لفراغ! ولم يعد يلبس الحروف ليقول جُملاً وكلمات! إنه تعبيرٌ دقيق ومرهف كحدّ السكين وهو حدُّ سكين واقعي حزّ القلب قبل أن تخطَّه الريشة على بياض! لذلك يتخطّى لونه المعصور من عبوة ألوان ويمسّ قلب الرائي لأنه يفتح الجرح ويخرّشه مجدداً كلحظة حدوثه، ومأثرتُه أنه يبقى عبر الزمان فتراه الأجيال وتقرأ فيه ما كُتب في مجلدات، فعبر زمان الآلام البشرية ولدت الملاحم المروية بآلاف الصفحات، وكذلك الأيقونات، فما كانت الأيقونة بأقلّ شأناً وتأثيراً من ملحمة تامة، وما كانت تحتاج إلى أحبار وأقلام ورواة، بل توسدت مكاناً فيزيائياً صغيراً وملأت الآماد والفضاءات والمعابد والبيوت والأرواح بروحانيتها وقداستها ودفعها للإنسان في عالم الأمل والتوق إلى العدالة، وكل هذا يزهر بنداوة ونحن نعلق الأيقونات المرسومة بألم، على جدراننا وفي قلوبنا!