الحرية- علي الرّاعي:
على إيقاعٍ من المواربة الشعرية، ومن خلال أبوابٍ مخاتلة؛ ليست مفتوحةً على مصراعيها، وهي كذلك ليست موصدة، يسرد ناظم مهنّا (سردياته) ال”نصف غنائية” كما وسمها.. وللتنويه؛ فإنّ كتاب (أرواح نيئة في جرارٍ من الفخار – سرديات نصف غنائية)؛ هو الكتاب الثاني الذي يصدر بعد رحيله، والذي تحضر ذكرى غيابه الثانية هذه الأيام.. وعندي يقين أنّ في أدراجه من المخطوطات ما يكفي لعشرة كتبٍ قادمة..
“هل كانوا مجانين حين أطلقوا ضحكاتهم في الليل؟
ما الذي كان يدور في خلدهم، عن ماذا كانوا يتحدثون؟
هل كانت الساعات تُصفّر لهم: آنَ للضوء المتلاشي أن يعود؟
ما الذي كان يجري في مدخل البيت المزدهر بالضحكات الليلية؟
أم أنه ما من شيءٍ صدى لوجهٍ قديمٍ في الذاكرة؟”
ناظم مهنّا (1960- 2023) الذي كثيراً ما كان يشعر من يلتقي معه؛ إنه كنزٌ من المعارف والمعلومات، و الرأي الراجح والذي وكثيراً ما كان رأياً سديداً في العديد من القضايا كما أثبتت الوقائع لاحقاً، وإلى اليوم لم أغيّر رأي فيما أطلقته عليه سابقاً ب”المكتبة المتنقلة”..
وفي العودة لكتابه (أرواح نيئة في جرارٍ من الفخار) الصادر عن دار شيبلا؛ يؤكد ما أشرنا إليه أعلاه، في هذه الموهبة العالية في تكريس معارفه في نصٍّ ستعجز – مهما وقفت طويلاً أمامه – عن تحديد جنسه الإباعي..
“تُرابك الأصفر البليد، شجرك الخاوي، بشركِ الذين تقودهم أبقارهم إلى المراعي.. صُراخهم الممطوط، وهم يُحيّون بعضهم عبر الوديان، راىحة الموتى عبر العصور..(..)
نهركِ الذي ضاع في الرمل، عيونُ أطفالكِ المعلقة بالعصافيرِ وبالغيوم العابرة (..) كلُّ شيءٍ أيتها القرية يتحوّل فيَّ إلى قيظٍ وغبارٍ وقش..”
فالراحل ناظم مهنّا الذي أول ما تعرف إليه قارئ العربية من خلال القصة القصيرة، قصة ستختلف بالكثير من الملامح عن المشهد القصصي السوري، وحتى العربي، قصة ستأخذ من مناخات “البورخيسية” الكثير، حيث كان يكتب قصته، وفي ذهنه فضاء خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، لكنه سيُفارقه كثيراً بالمضامين التي يأتي بها مستحضراً سوريّا العتيقة، وأحياناً سوريّا الموغلة في القدامة، ليأتي بأحداث حيناً متخيلة، وطوراً من وقائع قديمة، ويسردها إسقاطاً لواقع نعيشه (الآن وهنا)..
بعد القصة، سنتعرف على ناظم مهنّا كاتب مقالة، وهي الأخرى مقالة موسوعية مفعمة بالمعارف ومتخمة بالسياسة والفلسفة والثقافة العالية، ثم ليفاجئنا بعد حين بديوان شعرٍ، يكاد يكون كله قصيدة واحدة بانفعالاتٍ مختلفة، وعواطف متنوعة..
أسرد بعض شواغل ناظم مهنّا الإبداعية، لأشير لما بين يدي اليوم (أرواح نيئة في جرارٍ من الفخار)، هكذا بكل هذه البلاغة من الشعرية العالية والمجاز المفعم بالتأويلات.. ففي هذه النصوص التي وصفها ب”سرديّات نصف غنائية”، وهنا ربما ليزيد في حالة المواربة والمخاتلة التي كانت شاغله الإبداعي في هذه السرديّات، ومن ثم ليضعنا في حالة العجز عن التصنيف.. حيث ستجد فيها الكثير الكثير من الشعر، والذي يبدأ به من العنوان، ومن ثمّ سيضعُ كلَّ خبرته العالية في القص لإنتاج كل هذه “الحكائية” من سرد في الأحداث والإخبار منوعاً بين القصة القصيرة في حجمها المتعارف عليه، أو في سرديّات التي تأتي كتنويعات في القصة القصيرة جداً، وكذلك في الإيماض من الشعر والأدب الوجيز..
“أيها الرجلُ الهزيل..
وأنت تعبرُ تحت المطر،
من نافذتي أراك؛ بلا معطفٍ شتويٍّ
يا صديق الليل والمناشير..
يا آخر البلاشفة
في القرى البعيدة..
سُعالك يُذكرني بالقطارات،
وبالثورات المغدورة!”
ولأنه كما ذكرنا فقد كان الراحل “مكتبة متنقلة” من المعارف، تلك المعارف التي يستثمرها من دون استعراض أو هدر في سردياته ومن دون أن تثقل كاهل النص، بل على العكس تماماً، فكثيراً ما تأتي المعلومة كإغناء للنص، معطيةً له “العمق” المعرفي، ذا الاستطالات من التأويل والإسقاط من دون مباشرة..
تنوسُ “سرديّات نصف غنائية” بين القصيدة والقصة وحتى المقالة، والتي كثيراً ما تتماهى معاً في نصٍّ واحد بنفس المقدار من الاتساع، أو قد يُغلّب أحدها على أخرى، فيأتي النص قصة قصيرة لا التباس في حكائيتها رغم الشعرية العالية التي لا يتخلى عنها حتى في مقالاته، أو قد تأتي نصّاً شعريّاً بكامل المجاز اللائق بالقصيدة.. ونادراً ما يأتي النص سرداً جافاً.. نصوص قد تأخذ صفحتين أو ثلاثة، أو قد تأتي دفقة شعورية دفعةً واحدة لا تتجاوز أسطر قليلة، وأحياناً سطرين أو أدنى..
“عاش ما يُقارب الثمانين؛
خمسون منها في التعب والصمت،
والثلاثون الأخيرة في العزلةِ، لم يكن فيها سوى الحيوانات..
في الخمسين الأولى؛ رأى وسمع وفعل وفق حدود إمكاناته..
وفي الثلاثين الأخيرة؛ قرر ألا يرى، ولا يسمع،
وكان ينتظرُ ملاك الموت كمسافرٍ أبدي في محطةٍ،
لا يوجد فيها غير الدخانِ والصفير..”
في لغة سرديّات هذه النصوص التي تأتي هادئة عميقة، وكأنها تجسيد لصاحبها، – وناظم المعروف بهدوئه الذي يشبه الشعر – لغة حكائين متمرسين في المجاز والسرد، وربما من هنا نعرف سرَّ هذا اللغز في التماهي بين الحكائية والمجاز، لغة تأتي كقارب يُبحر بنا ناظم مهنّا من خلاله في بحور أزمنةٍ مختلفة، من فينيقية قصيّة إلى ذكريات ريفية ملونة، بكلِّ ما خزنت الذاكرة من مثولوجيا وروحانيّات، وعِبر.. ثم يعود بنا بذات القوارب اللغوية ليُقدم سرديته مناصفة بين “الغناء والحكاية”..
“في أرض أدوم؛ قالت صخرةٌ للسائح:
لقد طالَ تحديقك بي يا بني..
أنا مُجردُ صخرةٍ؛ يظنني أمثالك شعوباً نائمة!”
وما سألفت إليه في أمر لغة ناظم مهنّا؛ هو ولعه الشديد في الوصف، ومهما كان شكل النص الذي يسرده، سواء كان شعراً أما قصة قصيرة، وكأنه يًصوّر مشاهد، أو يرسمها، فهو لا يتونى يضع متلقي سردياته في مناخات المكان من جبال وغيوم وحيواناتٍ وبشر..وصف ليس بمعنى الرواية والقص فقط، وإنما من خلال التشكيل.. نعم ناظم مهنّا فنان تشكيلي في وصفه لدرجة يمكن أن يقرأ المرء نصه قراءة لونية وبصرية بكل تجسيداتها وخطوطها وألونها..
واختم عائداً إلى العنوان (أرواح نيئة في جرارٍ من الفخار) الذي اشتغل عليه ناظم مهنا من خارج مضامين النصوص، وإن لم يكن من خارج سياقاتها.. بمعنى العنوان لم يقتطعه من سياق النصوص أو أحد عناوينها كما درجت العادة في عنونة المجموعات الشعرية والقصصية، وإنما جاء العنوان اشتقاقاً وتركيباً منفرداً يحتوي نصوص المجموعة كلها، أو يتعالق معها بمجساتٍ من المجاز والمناخات الشعرية..
الكتاب: أرواح نيئة في جرارٍ من الفخار
الكاتب: ناظم مهنّا
الناشر: دار شيبلا