الحرية- لبنى شاكر:
مُتفرجٌ صبورٌ؛ هذا ما تستوجبه شخوص النحات ممتاز شعيب، إذ إن الموازنة بين الخواء والامتلاء، ليست إلّا ترجمةً لأيامنا الثقيلة بعد أعوامٍ من الأسى، خرجنا منها بأحمالٍ فادحة ونفوسٍ مُتعبة، تستجدي قوتها من يأسها، وآمالها من أحزانها، وعلى هذا الإيقاع، تأتي أعماله على هيئة مَشَاهد تُذكرنا بما نحن عليه، أحياءٌ أموات، مُتمنياً أن تُثير فينا التساؤل، عمّا نريد من الحياة، وعمّا ما لا نريده، لنسير بعبءٍ أخف، وبهمةٍ أقوى.
احتفاءً بالبرونز
في معرضه الفردي الأول، المُفتتح مُؤخراً في غاليري البيت الأزرق، لا يتردد شعيب في إعلان إخلاصه للبرونز، المُكوّن الواحد لأعماله، فهو كما يقول في حديثه لـ “الحرية” معدنٌ يُحبه، ويُجيد التعاطي معه، عدا عن امتلاكه ورشة لسكب البرونز على طريقة الشمع المهدور، تُنفّذ فيها الأعمال الفنية المعقدة، إضافةً إلى اشتغاله تشكيلاتٍ لا يُمكن إنتاجها مع وسيط نحتيٍّ ثانٍ غير الشمع، لإنجاز الرقة والالتفافات المطلوبة.
“البيت بالنسبة للإنسان السوري حلمٌ حقيقيٌّ، لذلك لم تكن البيوت المهدّمة في رؤيتي مجرد واجهةٍ خارجيةٍ ولم تكن أبواباً وشبابيك، بل حياةً كاملةً بتفاصيلها
أمّا عن التأخّر في إقامة معرض فردي، رغم كم المشاركات الجماعية الكبير في سوريا وخارجها، من بينها معرض الفنانين الشباب السابع في الرواق العربي عام 2012، والذي نال فيه الجائزة الأولى، ومعرض المنحوتة الصغيرة في غاليري مصطفى علي في العام نفسه، فالسبب يعود إلى الخامة المُكلفة، وما تستلزمه من جهد ووقت، عدا عمّا عايشناه من إشكاليات في سنوات الحرب، من فقدان بعض المواد وغلائها، ومنع استخدام مواد أخرى وتشديد الرقابة على تداولها، وفي المحصلة حالت هذه الظروف دون تقديم معرضٍ يحمل اسمه.
الإنسان والبيت
يُقدّم شعيب نوعاً من التجريد في ثلاثين منحوتة، تدور في عالمي الإنسان المُتشبث دائماً بأرضه، والحالم بعالمٍ أفضل، والبيت المُهدّم، الصامد بفجواته وركامه، وما بقي على جدرانه من صور، وهما الموضوعان اللذان يهتم بهما منذ أعوام.
“الفراغ ليس دائماً مُرادفاً للبتر، إلّا حين يكون مقصوداً، وقد يكون غياباً لا يُشعر بالنقص”
وفي السياق نفسه كان سؤالنا عن تطور العمل النحتي عنده، والذي يبدو أنه يُوازي فكرة الاستمرارية بحد ذاتها، بمعنى أن أعماله المُنتجة قبل عام لا يجب أن تتشابه مع نظيراتها عام 2011، رغم وحدانية التقنية، إذ إن الأمر يذهب هنا نحو التكوين، يقول: “التساؤل عندي ينطلق من مدى قدرتي اللعب على التكوين، ليكون مرئياً من كل الجهات، مُدلِلاً كذلك على التقنية المُستخدمة من مُختلف زواياه وأبعاده، استناداً إلى فهمي اللغة البصرية للعمل، بدءاً من علاقة الخطوط مع الكتلة، وصولاً إلى علاقتها مع الفراغ، وفي ميدان التطور فالقدرة على إيجاد الحلول وطريقة التنفيذ لموضوع أو تكوين كان صعباً في فترة سابقة، تعني نضوجاً”.
التفافٌ على الجسد
يُحاول النحات الالتفاف على التكوين الجسدي لإظهاره بشكل آخر، عبر أجزاء بشرية ملتفة للداخل أو الخارج، يقول موضحاً: “الفراغ ليس دائماً مرادفاً للبتر، إلّا حين يكون مقصوداً، قد يكون غياباً لا يُشعر بالنقص، فتقدر عين المتلقي على إكمال المشهد، وتُبقي لعقله التساؤل حول علاقة الكتلة بالكتلة والفراغ، وعلاقة الخطوط بالخطوط وبالكتل وبالفراغ”.
يُضيف أيضاً “البيت بالنسبة للإنسان السوري حلمٌ حقيقيٌّ، لذلك لم تكن البيوت المهدّمة في رؤيتي مجرّد واجهةٍ خارجيةٍ ولم تكن أبواباً وشبابيك، بل كانت حياةً كاملةً بتفاصيلها، بأسماء ساكينها وحيواتهم وصورهم، أولئك الذين طالهم الدمار والخسارة، وما زالوا متمسكين بالوطن والحياة والكرامة، هم شخوصي التي تؤكد على استمراريتها رغم استمرار الهموم والتعب الإنساني، لأن كل تطور يهدف للراحة والسعادة يحمل بذورَ همٍّ جديد وعبءٍ جديد، بذوراً تنمو وتتشعب، ويبقى الإنسان هو الإنسان”.
“قررتُ العرض في بلدي لأني أشعر بانتمائي إلى هذا المكان الذي لم يعد محسوباً على أي توجهٍ أو شخصٍ كما كان سابقاً”
سيرورة الألم
مع تحرير سوريا، فضّل النحات أن يكون معرضه الفردي الأول في بلده، وللمصادفة فهو المعرض النحتي الأول عموماً بعد سقوط الطاغية، وعلى حدِّ تعبيره “قررت العرض في بلدي لأني أشعر بانتمائي إلى هذا المكان الذي لم يعد محسوباً على أي توجه أو شخص كما كان سابقاً”، وفي حين تحكي أعماله عنّا، عن الأرض والإنسان، يُؤكد شعيب أن أي موضوع اشتغل عليه يمكن أن يكونه.
وفي الحديث عن المستقبل، فيُمكن لشعيب تقديم أعمال تحكي عن التحول الذي عشناه بانتصار الثورة، يقول: “الإنتاج الفني مخزون عند الفنان، كل ما مرّ علينا أو أثّر فينا، سيخرج بلغةٍ بصريةٍ خاصةٍ بصاحبها، وما تكشّف عن معاناة المعذبين في السجون والمغيبين والمفقودين، معروفٌ لنا، وليس جديداً أو مُستغرباً أبداً، بل إن معاناة الشعب
السوري سيرورة قديمة، قِدم التاريخ نفسه، ولطالما كان الألم والضحايا.