روسيا وسياسة الرسائل المُعلنة والمباشرة باتجاه القيادة السورية.. كيف تعمل موسكو على تدوير علاقاتها مع دمشق؟

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:

عملياً، لا يغادر ملف العلاقات السورية – الروسية دائرة الاهتمام والتركيز، رغم قلة تناوله إعلامياً، ربما لقلة النشاط المتعلق به، وربما لأن الجانبين، السوري والروسي لا يقولان الكثير، وعندما يقولان فإنها لا يتجاوزان قاعدة «لكل مقام مقال» وبما يترك المراقبين رهن التوقع والتحليل وانتظار ما يصدر رسمياً.
وعليه فقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمس الأربعاء حول «إجراء اتصالات رفيعة المستوى بين روسيا وسوريا الأسبوع المقبل».. لتدفع بالمراقبين نحو مسارات تحليل أوسع في الرؤى والتقديرات.
وكان لافروف يتحدث أمام «الدوما» في جلسة مخصصة لعرض مجريات المحادثات الروسية – الأميركية في السعودية، الثلاثاء الماضي، والتي كانت محط تركيز دولي شديد.. ومحل اهتمام ومتابعة من السوريين، وهم المعنيون بكل ما يدور حولهم، فكيف إذا كان الحال يتعلق بروسيا؟
يقول لافروف وفق ما نقلت وسائل إعلام روسية: «السلطات السورية الجديدة تؤكد علناً ضرورة احترام الطبيعة الاستراتيجية التاريخية لعلاقاتنا». واصفاً زيارة الوفد الروسي إلى سوريا في يناير الماضي بـ«الإيجابية». قائلاً: المحادثة الهاتفية الأخيرة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس أحمد الشرع سبقتها زيارة وفد وزاري برئاسة الممثل الخاص ميخائيل بوغدانوف، جرت الزيارة قبل أيام من المحادثة الهاتفية، ونتائجها كانت إيجابية للغاية (في إشارة منه – ربما – إلى أن هذه الزيارة الإيجابية أفسحت في المجال لتوسيع دائرة الاتصالات إلى المستوى الرئاسي).
لكن لافروف «غمز» من زاوية التهديدات الأمنية التي تواجه سوريا، لتوجيه رسالة محددة مفادها أن العلاقات السورية – الروسية لا بد من أن تبقى قائمة، وأن تستمر «استراتيجية» مشيراً إلى ليبيا، قائلاً: «من الواضح أن إحدى القضايا الرئيسية الآن منع تكرار سيناريو ليبيا التي فقدت كيانها نتيجة لعدوان حلف شمال الأطلسي، وانقسمت ولم تعد قادرة على لم شملها من جديد، هناك مثل هذه التهديدات في سوريا أيضاً».
لكن الجانب السوري بقيادته الجديدة لديه دائماً من الرسائل ما يكفي للرد على الجميع، خصوصاً روسيا، وإن كان مازال يحافظ على مسار براغماتي معها لضرورات يفرضها مسار الانتقال السياسي، والتموضعات الحالية والمستقبلية.. وما سيفرزه المسار الجديد للعلاقات الأميركية – الروسية.

– ما بعد تصريحات لافروف
في اليوم التالي لتصريحات لافروف، أي اليوم الخميس، تحدثت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية عن اشتغال روسيا على أهداف سياستها الجديدة مع سوريا، قائلة: إن روسيا تتجه إلى زيادة سوية الاتصالات مع القيادة في سوريا، ومن المتوقع أن تطرح قريباً خطة جديدة وجوهرية للتعامل مع دمشق.

روسيا تسعى لتوصيل رسائل مفادها لماذا يكون هناك «فك ارتباط» إذا كان بالإمكان إعادة ترتيب العلاقات باتجاهات مفيدة

ولكن كيف ستفعل روسيا ذلك؟.. بمعنى كيف ستعيد روسيا ترتيب/تدوير أوراقها في سوريا، في ظل تحديات لا يستهان بها، سواء على مستوى الداخل السوري أو على مستوى اهتمام دولي متواصل بسوريا وبزخم كبير؟
بداية لنذكر أن الرئاسة السورية تتعامل بكثير جداً من بعد النظر، وتركز على أن «الحمولة» التاريخية القائمة ما بين سوريا وروسيا تفرض سياسة براغماتية في رسم مستقبل العلاقات، فليس من الممكن أو من المفيد إجراء «فك ارتباط» مع روسيا، قبل بحث وتسوية العديد من القضايا، مع مراعاة الكثيرة من الاعتبارات الداخلية، والدولية. حتى عندما يكون الحديث متعلقاً بتسريع فك الارتباط فهذا لا يبدو متاحاً حالياً، أو لنقل يحتاج وقتاً، ولكن لماذا يكون هناك «فك ارتباط» إذا كان بالإمكان تدوير العلاقات باتجاهات مفيدة؟
هذا ما تقوله روسيا، وما تعمل عليه، أي إقناع القيادة السورية أنه بالإمكان إقامة علاقات معاكسة مفيدة، تصب في مصلحة الجانبين، خصوصاً وأن روسيا ليست بالعموم طرفاً مرفوضاً في المنطقة، وهي تحظى بعلاقات عربية/إقليمية، جيدة.
لنفصّل أكثر في الملفات، وفي عرض ما هو قائم وما هو ممكن مستقبلاً؟

القائم والممكن
1- تسعى روسيا لتجاوز «الحمولة» التاريخية الثقيلة في تعاملها مع القيادة السورية الجديدة، وهي تعمل على تقديم تقاعسها عن إسناد النظام البائد عسكرياً عندما بدأت معركة ردع العدوان – التي انتهت بسقوطه في 8 كانون الأول الماضي – على أنه دعم بصورة غير مباشرة لتلك المعركة، وكان له إسهام مهم في انتصارها، وتريد أن تبني عليه في سبيل ترتيب علاقات مستقبلية جديدة.

القيادة السورية ترى أن عليها الاستمرار في توضيح الملفات الإشكالية للجانب الروسي خصوصاً التموضع بعيداً عن المحاور وتعزيز موقع الدولة واستقلاليتها

يدرك الجانب السوري ما يفعله الجانب الروسي، وهو وإن كان يتعامل ببعد نظر، وبعيداً عن الحمولة التاريخية آنفة الذكر خصوصاً ما بعد عام 2011 إلا أنه بالمقابل يدرك أن عليه الاستمرار في توضيح الملفات الإشكالية القائمة للجانب الروسي، والتي تتعلق بصورة أساسية بالتموضع الجيوسياسي الجديد لسوريا بعيداً عن محور إيران روسيا، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية تعزيز موقع الدولة واستقلاليتها وقدرتها على تحقيق علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة وعلى المستوى الدولي.
2- بلا شك، تأخذ سوريا بالاعتبار أن روسيا دولة مهمة، وأنها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهذا ينعكس بدوره على المستوى العسكري (القواعد الروسية) ومستقبلها وموقف القيادة السورية من التعاون العسكري مع روسيا، خصوصاً أن هذا التعاون قائم منذ ثمانية عقود، كتسليح وتصنيع وتدريب وإشراف.. الخ… المراقبون يرون أن القيادة السورية ليست مضطرة لروسيا لبناء جيش جديد إذا أخذنا بالاعتبار وجود تركيا (وعلاقاتها مع الغرب) وإبداءها الاستعداد الكامل لمساندة سوريا في كل المجالات، وهي التي استمرت على مدى 14 عاماً مضت في دعم الثورة السورية.
ما يعني أن على روسيا – عملياً – أن تنسى مسألة التعاون العسكري في علاقاتها المستقبلية مع سوريا.

ممرات الطاقة والتجارة
3- ماذا عن الاقتصاد؟
يجدد المراقبون لمسار الأهداف الروسية في سوريا خصوصاً ما بعد عام 2011، أن الهدف الرئيسي لم يكن الوصول إلى المياه الدافئة. لقد تغيرت خرائط التفكير الجيواستراتيجي مع بداية هذا القرن الـ21 على خلفية تغير مسارات الصراع العالمي وتحولها من السياسة إلى خطوط الطاقة والتجارة، مراكزها وممراتها، وتالياً تغير أهمية سوريا كموقع وتموضع وكأحد أهم ممرات الطاقة والتجارة، الأمر نفسه يًقال بالنسبة للغرب ونظرته إلى سوريا. لقد استغلت روسيا ظروف الحرب لإبرام عدة اتفاقيات مع النظام السابق، لكن استمرار الحرب، لم يفسح أي مجال أمام روسيا لوضع هذه الاتفاقيات موضع التنفيذ.. اليوم ربما تتطلع روسيا للاتفاقيات نفسها مع القيادة السورية الجديدة التي تتريث، وتوازن خياراتها، وقد لا تكون روسيا من ضمنها، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن روسيا لا تحظى بترحيب شعبي داخلي، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية بدأت دول أوروبية تطرح نفسها على صعيد الاستثمار خصوصاً في مجالات الطاقة، وهي ستكون الأهم ولها الأولوية كونها ستكون رأس حربة في مسألة رفع العقوبات، من جهة ثانية.

الاحتضان الدولي لسوريا يعقّد مهمة روسيا والإسناد الذي تحتاجه غير متاح

 

حذر أم ارتباك؟
4- يبقى المستوى السياسي.
معظم المراقبين يتفقون على أن روسيا حذرة في خطواتها تجاه سوريا الجديدة، ولاتزال تدرس خياراتها، وإن كانت ترغب بشدة في تجاوز هذه الحالة الضارة بموقعها في المنطقة.. فيما يرى آخرون أنه ليس حذراً بقدر ما هو ارتباك في ترتيب العلاقات وعدم معرفة ردود فعل القيادة السورية، على وجه الدقة، تجاه ما يمكن طرحه لمستقبل العلاقات. ولا شك أن الاحتضان الدولي لسوريا يُعقّد المهمة، لكنه في الوقت ذاته يستفز روسيا باتجاه مضاعفة الجهود لعدم خسارة كل أوراقها في سوريا. ويرى المراقبون أن روسيا تملك أوراقاً مهمة عربية (السعودية) وإقليمية (تركيا) قد تنعكس إيجاباً في توسيع مستوى العلاقات السياسية لتنعكس بدورها على العلاقات الأخرى.
بكل الأحوال، تدرك روسياً تماماً أن العلاقات مع سوريا لن تكون كسابق عهدها، فسوريا اليوم تحتاج إسناداً مختلفاً في ملفات داخلية لا تقبل التأخير والتأجيل، خصوصاً ملفي استعادة الاقتصاد وإعادة الإعمار.. وهنا يتقدم الغرب، فعلى أي استراتيجية ستبني روسيا مسار رفع مستوى الاتصالات مع سوريا؟

Leave a Comment
آخر الأخبار