تعلم التركية ليقرأ ناظم حكمت.. المترجم والكاتب أحمد الإبراهيم :”لا تُبنى حضارة عظيمة إلاّ بعد مرورها بعتبة الترجمة”

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية – حنان علي :

في فضاء الأدب الشاسع، يبرز الشاعر والمترجم أحمد الإبراهيم كأحد الأسماء اللامعة التي تسهم في تعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب، ذلك قبل ستة وعشرين عاماً حين انتقى الترجمة نهجاً لمد جسرٍ بين الثقافتين العربية والتركية مكرساً اختيار مواضيعه لبناء فهمٍ هادئ ومؤثر.. دفعه الشغفُ العميق إلى دراسة الأدب التركي، ومن خلال ترجماته ومؤلفاته، يسعى الإبراهيم لتقديم أعمال أدبية وتاريخية تعكس تنوع وغنى الثقافة التركية، مع التركيز على الجوانب الإنسانية العميقة.  لعله استهلها مع التركي الساخر عزيز نيسين لكنه لم يختتمها بكتابة تاريخ الأتراك بأجزائه الستة أو بترجمة التقليد الأعمى ل(امراه صفا أورغان)..

أجور الترجمة في سوريا منخفضة لدرجة أنك ستكون معرّضاً، ليس للفقر فحسب، بل للجوع إن غامرت وتفرّغت للترجمة

في هذا الحوار، نغوص في تجربة المترجم الشخصية، التحديات التي واجهها ورؤيته للأدب كوسيلة للتواصل والتفاهم. دعونا نستمع إلى أحمد الإبراهيم ومشاركة رؤاه حول عالم الترجمة والأدب، وكيف يمكن للكلمات أن تفتح آفاقًا جديدة للفهم والتقدير.

سوريا والأناضول

•  عشت عمراً في تركيا وكثيراً ما تصف من عاشرتهم من الأتراك بالأهل.. ما هي أبرز السمات التي تميز الشعب التركي ولا يعرفها السوريون والعرب؟.

** سوريا الطبيعية والأناضول حوض حضاري واحد، ومن ثمَّ، الشعوب التي تعيش في هذه المنطقة الجغرافية متعددة الأعراق، تفاعلت فيما بينها عبر آلاف السنين، فمأكولاتها واحدة ومشروباتها واحدة وعاداتها وتقاليدها واحدة، أو متشابهة حد التطابق رغم خصوصيات كل قوم. لقد كان الأناضول مسرحاً للعديد من الشعوب التي بنت حضارات في هذه المنطقة، وكل شخص من منطقتنا قصد الأناضول كان شريكاً في بناء هذه الحضارات. الشعوب التي تقطن تركيا شعوب مضيافة تُكرم الضيف وتحبه وتفتح قلوبها قبل أبوابها. أما التنوع العرقي فجعل من تركيا لوحة جميلة ثرية بعاداتها وتقاليدها، بفنونها وموسيقاها وآدابها، فمن أدب العاشقين الذين كانوا يجولون الأناضول بأغانيهم ومسرحياتهم الجوالة، إلى البزق الذي يكتسب قدسية عند بعض الأقوام لدرجة أنه عنصر أساسي في العديد من الطقوس المنتشرة في الأناضول.

أنت مضطر لخيانة مهنتك كمترجم وممارسة أعمالٍ أخرى من أجل الكسب والعيش بكرامة وهذا يضيّع الجهود ويشتتها

•  كيف أثرت المسلسلات التركية التي نقلتها إلى العربية على فهم العرب للواقع التركي؟ هل تعكس حياتهم بشفافية؟

** لاحظنا مع مجموعة من الزملاء المترجمين وجود جهل بين شعوب المنطقة فيما يخص معرفة بعضهم بعضاً، فلا الأتراك يعرفون العرب ولا العرب يعرفون الأتراك، وكلاهما جاهل فيما يخص العرب والأتراك والأكراد والشركس والسريان والآشوريين وغيرهم من الشعوب التي تعيش في الأناضول وسوريا. وقد لعب الاستشراق بخبثٍ ومكرٍ مقصودين، دوراً في إبعاد هذه الشعوب عن بعضها بعضاً. فبدأ بتضليل المعلومات بشكلٍ مدروس مع إيقاظ العصبيات، لذا أردنا تعريف الشعوب ببعضها بعضاً. صحيح أن الأدب مادة رائعة لهذه المهمة، غير أن مجتمعنا غير قارئ وبالتالي انتشار الكتاب محدود جداً، فلجأنا إلى المسلسلات لتحقيق هذه الغاية، فترجمنا مسلسل “إكليل الورد” الذي انتشر انتشاراً مهماً. لتتالى بعده المسلسلات التركية. لكنها حقيقة ابتعدت عن الغاية، خاصة مع إنتاج مسلسلات رخيصة بالمعنى الفكري والاخلاقي.

المسلسلات التركية تعكس ما يُراد لهذه الشعوب أن تكونه. هدفها تفكيك الأخلاق والمنظومة القيمية، بمعظمها، لا تعكس حقيقة الحياة في تركيا

هذه المسلسلات تعكس ما يُراد لهذه الشعوب أن تكونه. أي أن هدفها تفكيك الأخلاق والمنظومة القيمية. ومن ثم أستطيع الادعاء أن المسلسلات التي تعرضها شاشاتنا العربية، بمعظمها، لا تعكس الحياة في تركيا.

•  أنجزت عشرات الكتب المترجمة إلى العربية هل يمكنك مشاركة تجربة شخصية أثرت على رؤيتك للثقافة التركية؟

لأجل ناظم حكمت

** تعرّفت على الثقافة التركية قبل ذهابي إلى تركيا، وعندما سألتني مدرسة اللغة التركية في معهد اللغات بجامعة إسطنبول: لماذا تريد تعلّم اللغة التركية؟ أجبتها: كي أقرأ ناظم حكمت وعزيز نيسين بمتعة؟ ولكن عندما تعمّقت بدراسة الأدب التركي، روايات وأشعار وقصص قصيرة، وجدتُ ثقافة متكاملة جميلة، تُدخلك عبر صفحاتها إلى بيوت الأتراك بيتاً بيتاً، وتعرفّك بقدسية العلاقات الاجتماعية وقدسية الأسرة، وعلاقات الجيران الطيبة. صحيح أن الأتراك جاؤوا إلى الأناضول مع السلاجقة وفيما بعد مع العثمانيين، ولكنهم تفاعلوا مع عادات المنطقة وصارت جزءاً منهم، كما صاروا جزءاً منها. الثقافة التركية عميقة ومتنوعة وثريّة كما ثراء تراب الأناضول.

استطاع عزيز نيسين أن يستنطق الإنسان التركي ويجبره على قول ما لا يريد قوله

•  ما هي التحديات التي تواجهها في ترجمة الأدب التركي إلى العربية؟

** أجد متعتي في الترجمة، غير أن هذا لا يكفي، فليس كل كتاب أحبه مطلوباً للترجمة، دور النشر تسعى لترجمة الكتاب الأكثر مبيعاً، وهي محقة في ذلك. وهنا أولى التحديات، أنكَ، كمترجم، لست حراً في اختيار الكتاب الذي ستترجمه. وأما التحدي الثاني والأهم فهو الأجر. أجور الترجمة في سوريا منخفضة لدرجة أنك ستكون معرّضاً، ليس للفقر وحسب، بل وللجوع أيضاً إن أنت غامرت وتفرّغت للترجمة. ومن ثمّ أنت مضطر لخيانة مهنتك كمترجم وممارسة أعمالٍ أخرى من أجل كسب المال الذي يسمح لك بالعيش بكرامة وهذا يضيّع جهودك ويشتتها. ترجمت خمسةً وثلاثين كتاباً أو أكثر ولو كنتُ متفرغاً للترجمة لكان هذا الرقم تجاوز المائة.

أذاب  نيسين مكياج العادات الاجتماعية لنرى وجه البطل الحقيقي

من الواقع التركي

•  هلا ذكرت لنا أمثلة من ترجماتك عن أعمال تركية تعكس الواقع التركي بشكل دقيق؟

** قصص عزيز نيسين تعكس نبض الشارع التركي، تدخل إلى لا شعور الإنسان التركي، وتُخرج كل ما فيه.. استطاع عزيز نيسين أن يستنطق الإنسان التركي ويجبره على قول ما لا يريد قوله، أن يذيب مكياج العادات الاجتماعية لترى وجه البطل بكل عريّه.. اقرأ عزيز نيسين كي تعرف التركي كما هو.  أما الكاتب الساخر مظفر إزغو فقد استطاع عكس العادات والتقاليد التركية من خلال قصصه. ولن أنسى يشار كمال الناطق بلسان حال ابن الأناضول..

•  صدر لك ديوانا شعر حدثنا عن تجربتك الشعرية؟

** “في هذا القبر الواسع، تحت هذه السماء الضيقة” و”شمس حبيبي لا تغيب”.. كتبتُ الشعر ولكني لا أعدّ نفسي شاعراً. حينما أتألم أو يزداد توقي للحرية أو أحلم بأن يكون وطني أجمل وأحلى.. أركض إلى الصفحات البيضاء.. أسوّدها بمداد ألمي وتوقي للحرية.. الشعر، منفاي الجميل ومسرحي الأرقى وترجمة أحلام يقظتي…. ليس أكثر.

كتبتُ الشعر ولكني لا أعدُّ نفسي شاعراً، فالشعر منفاي الجميل ومسرحي الأرقى وترجمة أحلام يقظتي

•  هل ثمة ما تود إضافته لقراء صحيفة الحرية؟

** الترجمة عمل مؤسساتي، لم تُبن حضارة إلاّ بعد مرورها بعتبة الترجمة، ولنا أن نعيد قراءة الحضارة العربية التي ترجمت الفلسفة اليونانية، أو الحضارة الغربية حينما ترجمت الثقافة العربية. أتمنى أن تتم مأسسة الترجمة وتتبناها شركات كبرى ومراكز دراسات استراتيجية فهناك عدد ضخم من الكتب نحن بحاجة لترجمتها من كل اللغات إلى العربية.

Leave a Comment
آخر الأخبار