الحرب في السودان – انهيار حلم الدولة المدنية ‏

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

‏تشهد السودان حرباً مدمرة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو ‌‏(حميدتي)، اندلعت في نيسان 2023، وهي على وشك أن تدخل عامها الثالث بعد أيام قليلة، من دون أي أفق واضح لحلٍ سلمي، ‏هذا الصراع، الذي يمتد على مساحة 1.8 مليون كيلومتر مربع، في أكبر دولة أفريقيا أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مع نزوح ‏ملايين السكان وتهديد المجاعة لأجزاء واسعة من البلاد- تجربة سوريا.‏
كانت آمال السودانيين ببناء دولة مدنية حديثة بعد الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019 كبيرة وطامحة، لكن هذه الآمال تحطمت ‏على صخرة انقلاب الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان على الحكومة المدنية في تشرين الأول 2021، ومنذ منذ ذلك ‏الحين، غرقت البلاد في دوامة من الفوضى، لتندلع حربٌ أهلية مدمرة في نيسان 2023 ، حرب حولّت البلاد إلى مسرح لما وصفته ‏الأمم المتحدة بـ«أكبر أزمة إنسانية في العالم»، ويتفاقم الوضع بسبب تداخلات إقليمية معقدة، حيث تدعم تركيا وإيران الجيش ‏السوداني بالأسلحة والطائرات المسيّرة، بينما تسعى الحركة الإسلامية لاستعادة نفوذها السياسي على ظهر القوات المسلحة، ما ‏يعزز حالة الاستقطاب ويطيل أمد المعاناة، وبهده التداخلات واستمرار الحرب والدمار والمأساة الإنسانية يتبخر حلم الدولة المدنية ‏السودانية لدى السودانيين الباحثين اليوم عن النجاة بحياتهم وحياة أطفالهم وعائلاتهم وشيء من طعام قليل يبقيهم أحياءً في ظل ‏مجاعة تتسع يوماً بعد يوم في مساحات البلاد الواسعة والتي كانت يوماً واعدة وتوصف بسلة غذاء الوطن العربي ‏

تعنت الجيش السوداني ودور عبد الفتاح البرهان
يُعدّ تعنت الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، أحد أبرز العوامل التي تطيل أمد الحرب، فقد رفض البرهان حتى اليوم كل ‏محاولات جر الطرفين الى وقف الحرب والاحتكام إلى عملية سلام، ورفض المشاركة في جولات مفاوضات عديدة، كما أشار وزير ‏الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن في تصريح له في كانون الثاني 2025 قائلاً: «القوات المسلحة السودانية تواصل ‏استهداف المدنيين وتعرقل تقدم عملية السلام، رافضةً المشاركة في محادثات وقف إطلاق النار التي سعينا لعقدها»، هذا الرفض ‏يعكس إستراتيجية الجيش لتحقيق نصر عسكري حاسم، بدلاً من التفاوض، حتى مع كل الآثار المدمرة والمترتبة على استمرار ‏الحرب وتأثيراتها على المدنيين وعلى حاضر ومستقبل البلاد ونسيجه الاجتماعي ومستقبل التعايش فيه.‏
استخدم الجيش أساليبَ عنيفة تشمل القصف الجوي بهجمات عشوائية ومن بين الأساليب التي يستخدمها: البراميل المتفجرة، ما يذكّر ‏بالتكتيكات التي استخدمها النظام السوري ضد المدنيين، ففي أيلول 2024، وثّقت تقارير محلية قصف سوق في الخرطوم ببراميل ‏متفجرة أسفر عن مقتل العشرات، وهو ما يشبه هجمات النظام السوري في حلب وحمص بين 2012 و2016، حيث استُخدمت ‏البراميل لترويع السكان وتدمير البنية التحتية، هذه الأساليب، وفقاً لتقرير للأمم المتحدة في تشرين الأول 2024، «تسببت في نزوح ‏جماعي وفاقمت الأزمة الإنسانية».‏

انفتاح الدعم السريع على وقف إطلاق النار
في المقابل، أبدت قوات الدعم السريع انفتاحاً نسبياً لوقف إطلاق النار، فقد وافقت على حضور محادثات بوساطة الولايات المتحدة ‏والسعودية في سويسرا في آب 2024، بينما رفض الجيش المشاركة، كما أفادت وكالة رويترز، هذا الانفتاح قد يكون تكتيكياً لكسب ‏دعم دولي، لكنه يبرز تبايناً واضحاً مع موقف الجيش، وفي هذا السياق، تقترب رؤية قوات الدعم السريع من مطالب القوى المدنية ‏والعلمانية التي ترى فيها حائط صدٍّ محتملاً ضد عودة الحركة الإسلامية، فقد أشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في تشرين ‏الثاني 2024 إلى أن قوات «الدعم السريع، على عكس الجيش، أبدت استعداداً للتعاون مع الأطراف المدنية في إطار رؤية لدولة لا ‏تخضع لسيطرة التيار الإسلامي المتشدد»، هذا التقارب، وإن كان هشاً، يعكس آمالاً لدى نشطاء سودانيين مثل الصحفي خالد فضل، ‏الذي قال في مقابلة مع “بي بي سي” في كانون الأول 2024: «الدعم السريع ليست مثالية، لكنها الخيار الوحيد الذي قد يمنع عودة ‏نظام الإخوان الذي دمر السودان»‏

التداعيات الإنسانية.. أرقام محدثة
بلغ عدد النازحين داخلياً، بحسب الأمم المتحدة في شباط 2025، أكثر من 8.8 ملايين شخص، بينما تجاوز عدد اللاجئين إلى دول ‏الجوار 3.5 ملايين، بإجمالي يزيد على 12.3 مليون نازح ولاجئ، فيما تتحدث أرقام أخرى عن 15 مليون نازح، هذا العدد يجعل ‏السودان يواجه “أكبر أزمة نزوح في العالم”، وفقاً لتقرير للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ‏
أما على صعيد الجوع، فقد أكدت لجنة مراجعة تصنيف الأمن الغذائي (‏IPC‏) في آب 2024 أنّ المجاعة تضرب مخيم زمزم في ‏شمال دارفور، مع توقعات بأن تصل إلى مناطق أخرى، حيث يواجه 30 مليون شخص- أي أكثر من نصف السكان- انعدام الأمن ‏الغذائي الحاد، هذا الوضع يعكس تدهوراً خطيراً في القدرة على توفير الغذاء بسبب تدمير البنية التحتية الزراعية وشبكات النقل

مقارنة مع سوريا: أوجه التشابه والاختلاف
تشترك السودان وسوريا في استخدام القوة الجوية والبراميل المتفجرة كأدوات للقمع، لكن السياقات تختلف، في سوريا، دعمت إيران ‏أيضاً النظام عسكرياً، بينما يعتمد الجيش السوداني على طائرات تركية وإيرانية الصنع، كما أفاد تقرير لـ«نيويورك تايمز» في ‏تموز 2024، كما أنّ الصراع السوري امتد أكثر من عقد بسبب التدخلات الإقليمية المتعددة، بينما يبقى الصراع السوداني داخلياً إلى ‏حدٍّ كبير، مع دعم خارجي حديث وفق تقارير من تركيا وإيران للجيش.‏

الجهود الدولية ومؤتمر باريس
انعقد مؤتمر دولي في باريس مؤخراً برعاية فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، لجمع 3.8 مليارات يورو لتلبية الاحتياجات ‏الإنسانية، كما أشارت جوستين موزيك بيكيمال من منظمة التضامن الدولية، لكن نجاح هذه المبادرة يبقى مرهوناً بضغط دولي على ‏البرهان لقبول وقف إطلاق النار، وهو ما يبدو بعيد المنال حتى الآن.‌‏ ‏
إنّ استمرار الحرب في السودان يعود بشكل رئيس إلى تعنت الجيش السوداني وقائده عبد الفتاح البرهان، الذي يراهن على الحسم ‏العسكري بدلاً من الحلول السياسية، مستخدماً أساليب وحشية كالقصف بالطائرات والبراميل المتفجرة، على غرار ما شهدته سوريا، ‏في المقابل، يظهر الدعم السريع انفتاحاً نسبياً لوقف القتال، ما يفتح نافذة أمل ضيقة، لكن من دون ضغط دولي فعّال، ستبقى الأزمة ‏الإنسانية تتفاقم، مخلِّفةً المزيد من الدمار في بلد يعاني أصلاً من الانهيار، وإن تجربة سوريا يجب أن تكون ماثلة أمام قادة السودان ‏لتكشف عن ويلات ومآلات طول أمد الحرب ولتحذر من أنّ الاستمرار على هذا المنوال قد يقود السودان إلى هاوية لا عودة منها.‏

Leave a Comment
آخر الأخبار