تشهد السودان حرباً مدمرة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اندلعت في نيسان 2023، وهي على وشك أن تدخل عامها الثالث بعد أيام قليلة، من دون أي أفق واضح لحلٍ سلمي، هذا الصراع، الذي يمتد على مساحة 1.8 مليون كيلومتر مربع، في أكبر دولة أفريقيا أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مع نزوح ملايين السكان وتهديد المجاعة لأجزاء واسعة من البلاد- تجربة سوريا.
كانت آمال السودانيين ببناء دولة مدنية حديثة بعد الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019 كبيرة وطامحة، لكن هذه الآمال تحطمت على صخرة انقلاب الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان على الحكومة المدنية في تشرين الأول 2021، ومنذ منذ ذلك الحين، غرقت البلاد في دوامة من الفوضى، لتندلع حربٌ أهلية مدمرة في نيسان 2023 ، حرب حولّت البلاد إلى مسرح لما وصفته الأمم المتحدة بـ«أكبر أزمة إنسانية في العالم»، ويتفاقم الوضع بسبب تداخلات إقليمية معقدة، حيث تدعم تركيا وإيران الجيش السوداني بالأسلحة والطائرات المسيّرة، بينما تسعى الحركة الإسلامية لاستعادة نفوذها السياسي على ظهر القوات المسلحة، ما يعزز حالة الاستقطاب ويطيل أمد المعاناة، وبهده التداخلات واستمرار الحرب والدمار والمأساة الإنسانية يتبخر حلم الدولة المدنية السودانية لدى السودانيين الباحثين اليوم عن النجاة بحياتهم وحياة أطفالهم وعائلاتهم وشيء من طعام قليل يبقيهم أحياءً في ظل مجاعة تتسع يوماً بعد يوم في مساحات البلاد الواسعة والتي كانت يوماً واعدة وتوصف بسلة غذاء الوطن العربي
تعنت الجيش السوداني ودور عبد الفتاح البرهان
يُعدّ تعنت الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، أحد أبرز العوامل التي تطيل أمد الحرب، فقد رفض البرهان حتى اليوم كل محاولات جر الطرفين الى وقف الحرب والاحتكام إلى عملية سلام، ورفض المشاركة في جولات مفاوضات عديدة، كما أشار وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن في تصريح له في كانون الثاني 2025 قائلاً: «القوات المسلحة السودانية تواصل استهداف المدنيين وتعرقل تقدم عملية السلام، رافضةً المشاركة في محادثات وقف إطلاق النار التي سعينا لعقدها»، هذا الرفض يعكس إستراتيجية الجيش لتحقيق نصر عسكري حاسم، بدلاً من التفاوض، حتى مع كل الآثار المدمرة والمترتبة على استمرار الحرب وتأثيراتها على المدنيين وعلى حاضر ومستقبل البلاد ونسيجه الاجتماعي ومستقبل التعايش فيه.
استخدم الجيش أساليبَ عنيفة تشمل القصف الجوي بهجمات عشوائية ومن بين الأساليب التي يستخدمها: البراميل المتفجرة، ما يذكّر بالتكتيكات التي استخدمها النظام السوري ضد المدنيين، ففي أيلول 2024، وثّقت تقارير محلية قصف سوق في الخرطوم ببراميل متفجرة أسفر عن مقتل العشرات، وهو ما يشبه هجمات النظام السوري في حلب وحمص بين 2012 و2016، حيث استُخدمت البراميل لترويع السكان وتدمير البنية التحتية، هذه الأساليب، وفقاً لتقرير للأمم المتحدة في تشرين الأول 2024، «تسببت في نزوح جماعي وفاقمت الأزمة الإنسانية».
انفتاح الدعم السريع على وقف إطلاق النار
في المقابل، أبدت قوات الدعم السريع انفتاحاً نسبياً لوقف إطلاق النار، فقد وافقت على حضور محادثات بوساطة الولايات المتحدة والسعودية في سويسرا في آب 2024، بينما رفض الجيش المشاركة، كما أفادت وكالة رويترز، هذا الانفتاح قد يكون تكتيكياً لكسب دعم دولي، لكنه يبرز تبايناً واضحاً مع موقف الجيش، وفي هذا السياق، تقترب رؤية قوات الدعم السريع من مطالب القوى المدنية والعلمانية التي ترى فيها حائط صدٍّ محتملاً ضد عودة الحركة الإسلامية، فقد أشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في تشرين الثاني 2024 إلى أن قوات «الدعم السريع، على عكس الجيش، أبدت استعداداً للتعاون مع الأطراف المدنية في إطار رؤية لدولة لا تخضع لسيطرة التيار الإسلامي المتشدد»، هذا التقارب، وإن كان هشاً، يعكس آمالاً لدى نشطاء سودانيين مثل الصحفي خالد فضل، الذي قال في مقابلة مع “بي بي سي” في كانون الأول 2024: «الدعم السريع ليست مثالية، لكنها الخيار الوحيد الذي قد يمنع عودة نظام الإخوان الذي دمر السودان»
التداعيات الإنسانية.. أرقام محدثة
بلغ عدد النازحين داخلياً، بحسب الأمم المتحدة في شباط 2025، أكثر من 8.8 ملايين شخص، بينما تجاوز عدد اللاجئين إلى دول الجوار 3.5 ملايين، بإجمالي يزيد على 12.3 مليون نازح ولاجئ، فيما تتحدث أرقام أخرى عن 15 مليون نازح، هذا العدد يجعل السودان يواجه “أكبر أزمة نزوح في العالم”، وفقاً لتقرير للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
أما على صعيد الجوع، فقد أكدت لجنة مراجعة تصنيف الأمن الغذائي (IPC) في آب 2024 أنّ المجاعة تضرب مخيم زمزم في شمال دارفور، مع توقعات بأن تصل إلى مناطق أخرى، حيث يواجه 30 مليون شخص- أي أكثر من نصف السكان- انعدام الأمن الغذائي الحاد، هذا الوضع يعكس تدهوراً خطيراً في القدرة على توفير الغذاء بسبب تدمير البنية التحتية الزراعية وشبكات النقل
مقارنة مع سوريا: أوجه التشابه والاختلاف
تشترك السودان وسوريا في استخدام القوة الجوية والبراميل المتفجرة كأدوات للقمع، لكن السياقات تختلف، في سوريا، دعمت إيران أيضاً النظام عسكرياً، بينما يعتمد الجيش السوداني على طائرات تركية وإيرانية الصنع، كما أفاد تقرير لـ«نيويورك تايمز» في تموز 2024، كما أنّ الصراع السوري امتد أكثر من عقد بسبب التدخلات الإقليمية المتعددة، بينما يبقى الصراع السوداني داخلياً إلى حدٍّ كبير، مع دعم خارجي حديث وفق تقارير من تركيا وإيران للجيش.
الجهود الدولية ومؤتمر باريس
انعقد مؤتمر دولي في باريس مؤخراً برعاية فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، لجمع 3.8 مليارات يورو لتلبية الاحتياجات الإنسانية، كما أشارت جوستين موزيك بيكيمال من منظمة التضامن الدولية، لكن نجاح هذه المبادرة يبقى مرهوناً بضغط دولي على البرهان لقبول وقف إطلاق النار، وهو ما يبدو بعيد المنال حتى الآن.
إنّ استمرار الحرب في السودان يعود بشكل رئيس إلى تعنت الجيش السوداني وقائده عبد الفتاح البرهان، الذي يراهن على الحسم العسكري بدلاً من الحلول السياسية، مستخدماً أساليب وحشية كالقصف بالطائرات والبراميل المتفجرة، على غرار ما شهدته سوريا، في المقابل، يظهر الدعم السريع انفتاحاً نسبياً لوقف القتال، ما يفتح نافذة أمل ضيقة، لكن من دون ضغط دولي فعّال، ستبقى الأزمة الإنسانية تتفاقم، مخلِّفةً المزيد من الدمار في بلد يعاني أصلاً من الانهيار، وإن تجربة سوريا يجب أن تكون ماثلة أمام قادة السودان لتكشف عن ويلات ومآلات طول أمد الحرب ولتحذر من أنّ الاستمرار على هذا المنوال قد يقود السودان إلى هاوية لا عودة منها.