تنازع آراء بين رجال أعمال وخبراء النقد حول حلً مشكلة السيولة ونقص “الكاش” في سوريا

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحريّة – نهى علي:
يجري حالياً في أوساط قطاع الأعمال تداول حزمة من الأفكار لحل مشكلة السيولة التي أربكت التاجر والمواطن والبنوك على حد سواء.
وثمة طرح جديد ظهر على السطح مفاده أن يتم إعطاء التاجر نسبة 1 بالمئة لقاء تعاملاته مع زبائنه عبر بطاقات الدفع الإلكتروني، كذلك النسبة ذاتها للجهة المالية المانحة للبطاقة، مع العمل على ضبط التحايل والتلاعب.
ويرى أصحاب هذه الفكرة التي وصفها بعضهم بأنها “من خارج الصندوق”، ستوفر على البنك المركزي مبالغ مالية كبيرة مقابل طباعة واستيراد ونقل وحماية الأموال.

تاجر يقترح اقتطاع عمولة 1 بالمئة من حاملي البطاقات المصرفية لكل من البائع والمصرف

الفكرة راقت للبعض ممن يرون فيها من مرونة، إلا أن الخبراء في الشأن المصرفي والأكاديميين لم يوافقوا عليها لأسباب متعددة تبدو مقنعة.

مشكلة وليست حلّاً
إذ اعتبر الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، أن الفكرة ليست “حلًا” بل هي مشكلة كارثية.
ويتوقف قليلاً عند السيولة النقدية والسيولة المصرفية، مشيراً إلى أن أزمة السيولة في المصارف غالبًا مرتبطة باختلالات في الميزانيات الختامية (مثل تراكم الديون المتعثرة بمبالغ كبيرة جداً أو نقص الودائع بمختلف آجالها)، وليس فقط بكمية النقد المطبوع، بل حتى لو انخفض استخدام النقد، قد لا تتحسن سيولة المصارف إذا كانت المشكلة هيكلية (كفقدان الثقة بين المصارف والمواطنين).

د. قوشجي: مخالفة قانونية ونقدية وشرعية واضحة

مخاطر
ويضيف د. قوشجي في تصريح لصحيفتنا “الحرية” أن توفير تكاليف طباعة النقود الجديدة قد لا يُعادل المخاطر الناتجة عن فرض رسوم إضافية بنسبة 1% لاستبدال الأموال المصرفية بالكاش خارج المصارف، فهذه فكرة كارثية، ومثل هذا الاقتراح يُثير إشكالات عميقة تتجاوز الجدوى الاقتصادية إلى مخالفة القوانين النقدية، ومبادئ علم النقد، وأحكام الشريعة الإسلامية.

قانونياً
ففي ذلك مخالفة قانونية لقواعد النقد السيادي وفقاً لقوانين النقد في معظم الدول (مثل نظام النقد السعودي، وقانون البنك المركزي المصري وقانون النقد السوري)، تُعد العملة الوطنية نقداً قانونياً (Legal Tender) يُلزم قبوله كوسيط للدفع دون فرض شروط إضافية.
ومنح التاجر 1% مقابل تجنب المحجوز يُعتبر تمييزاً ضد النقد، ما يُناقض مبدأ “القبول الإلزامي” للنقد القانوني. فالقانون يُجبر التاجر على قبول النقد بقيمته الاسمية دون علاوات أو خصومات.

نقدياً
والفكرة -حسب الخبير قوشجي – تتناقض مع مبادئ علم النقد الذي يرتكز على ثلاث وظائف أساسية للنقود، وهي أنها وسيط تبادل، ومخزن للقيمة، ومقياس للأسعار، والاقتراح المطروح يُهدد هذه الوظائف عبر تقويض سيادة النقد القانوني، إذ إن تحويل النقد إلى “سلعة ثانوية” مقابَلَة بعلاوة، يُضعف ثقة الجمهور فيه، ويفتح الباب لتفضيل العملات الأجنبية أو الأصول الرقمية غير المنضبطة.
إلى جانب تشويه آلية تحديد الأسعار، فاختلاف سعر السلعة حسب طريقة الدفع يُخل بوظيفة النقد كـ”مقياس موحد للقيمة”، ويُعقد المقارنات بين الأسعار.

خسائر سيادية
هذا إلى جانب خسائر سيادية، تتمحور حول أن تقليل استخدام النقد يُقلص الإصدار النقدي (Seigniorage)، وهو ربح البنك المركزي من طباعة النقد، ما يُقلل موارده لتنفيذ السياسات النقدية.

شرعياً
كل ما سبق يُضاف إلى أن في فكرة اقتطاع 1 بالمئة مخالفة شرعية في الفقه الإسلامي يُحكم على الاقتراح شرعاً بناءً على ثلاثة محاور.. أولها مخالفة قاعدة “النقدان” وقاعدة “الثمنية”، ففي الفقه الإسلامي، النقد (ذهباً أو فضة أو عملة ورقية) له صفة الثمنية، أي هو مقياس للقيمة وليس سلعة تُتداول بعلاوة.
ثم لما يتصل بمفهوم الربا في النقد، فمنح علاوة 1% لاستبدال النقد الإلكتروني بالنقد العيني يُصنف كـربا النسيئة (الربا في الأجل)، لأنه زيادة مشروطة بزمن التحويل أو طريقة الدفع، وقد قال النبي ﷺ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ» (رواه مسلم).

غرر
وهناك عامل يحتم المنع بسبب الغرر والجهالة، إذ قد يؤدي التفاوت بين القيمة الاسمية للنقد وقيمته الفعلية (بسبب العلاوة) إلى غرر في المعاملات، وخاصة إذا اختلفت النسبة بين الجهات المانحة.
الفكرة تؤدي إلى الإضرار بالعدالة المالية أيضاً من وجهة د. قوشجي، فهو يرى أن تفضيل فئة (أصحاب الكاش) على (المعتمدين على المصارف) يُناقض مبدأ العدل في الشريعة، ويفتح باب الاحتكار المالي، وخاصة إذا هيمنت جهات محددة على الكاش.

خطأ متعدد الأوجه
فالاقتراح القاضي بمنح 1% لاستبدال النقد الإلكتروني بالنقد العيني ليس مجرد سياسة اقتصادية قابلة للنقاش، بل هو مخالفة صريحة للأطر القانونية والعلمية والشرعية، وذلك لأن قانونياً: يُناقض سيادة النقد القانوني ويُعرض من يطبقه للمساءلة.
و اقتصاديًا: يُشوه وظائف النقد ويُهدد الاستقرار النقدي.
وشرعياً: يدخل في دائرة الربا والغرر الممنوعين.

الفيومي: الفكرة غير مجدية وتوقيتها غير مناسب.. وعلى “المركزي” دراسة حجم السيولة المكتنزة لدى بعض التجار

الحلول
البحث عن حلول لأزمة السيولة عبر سياسات لا تُهدر الثقة في النقد القانوني، وتعيد الثقة للجهاز المصرفي والتدخل بأدوات عمليات السوق المفتوحة لمصرف سورية المركزي لتفادي نقص السيولة مثل إصدار شيكات بجدول تواريخ محددة ودمج الأنظمة المصرفية السورية في الشمال السوري مع الجهاز المصرفي وتعزيز الدفع الإلكتروني عبر بنية تحتية آمنة دون تمييز ضد النقد.

ثقافة “الكاش”
من جانبه الخبير المصرفي والمالي أنس الفيومي، يرى في تقييمه لفكرة اقتطاع النسبة التي يكثف أصحابها من ترويجها، أن المشكلة أن هذه الأنواع من الحلول وإن كانت مجدية من ناحية الفكرة، أو اقتباس الفكرة، إلا أن ما يعترض هذه الطروحات معوقات مهمة.
أولها أن الشعب السوري يهوى ثقافة الكاش، وجود النقد بين يديه، وقد فشلت الحكومات السابقة أن تنتقل بالمواطن إلى ثقافة التعامل اللا نقدي ولم تحاول بجدية تكريس فكرة هذا النوع من التعامل، حيث إن كل التجارب التي قامت بها أسهمت في كراهية المواطن لهذا النوع من التعامل، لماذا؟.. ببساطة شديدة لأن الشعوب التي اعتادت على هذا النوع من التعامل يشكل دخل المواطن ضعفي مصروفه فيها وإن أردت عدم المبالغة ليكن الدخل يوازي المصروف أما في بلدنا الدخل يكاد يعادل 15٪ من التزامات الأسرة الشهرية وهذا الدخل يحتاجه لتلبية متطلبات ضرورية لحياته يؤمن هذه المتطلبات التاجر الذي يحتاج للكاش أيضاً في تعامله مع تاجر الجملة إلى آخر السلسلة.

توقيت خاطئ
يضيف الخبير الفيومي في تصريحه لصحيفتنا “الحرية”: إن إعطاء التاجر نسبة أو حسم نسبة من مستخدم البطاقة يعيق قبول هذا الطرح.
ويرى أن هذه الطروحات جميلة ورائعة لكن المهم توقيت التطبيق وآلية التطبيق وقبوله.. فهل الوضع الاقتصادي وزعزعة الثقة بالمصارف والاتهامات المستمرة للتجار بالتلاعب والاحتكار يعطي الثقة في تقبل التعامل بالبطاقة.

ليست مجدية
من جهة ثانية يعتبر الفيومي أن هذا المقترح لن يغيّر من الواقع في شيء.. باعتبار أنه سيتم الانتقال من التعامل الورقي إلى التعامل الرقمي ضمن الحسابات في المصارف، وبالتالي نسبة 1٪ للتاجر لن تكون مغرية عند طلبه تسييل جزء من حسابه لتعاملاته الخاصة، علماً أنني – الكلام للخبير الفيومي – أتمنى من المركزي طرح دراسة عن حجم السيولة التي يخزنها بعض التجار لديهم نتيجة إحجامهم عن التعامل مع المصارف، من أيام الضوابط السابقة.

عبء
ويتساءل الخبير.. من سيتكفل بهذه النسبة إذا كان المصرف المركزي لن يتحمل هذه العمولة من حساباته وتخالف أنظمته؟
فبداية تطبيق أي مقترح لا بد أن يكون من الواقع الاقتصادي ومفاهيم السوق السورية.

Leave a Comment
آخر الأخبار