الحرية: سامي عيسى – مركزان الخليل:
الصناعة الوطنية تحمل الكثير من الهموم، أودعتها في حضنها معظم السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة، رغم الدور الهام الذي يقوم به القطاع الصناعي بشقيه الخاص والعام في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو الحامل للنظام السياسي والاقتصادي في سورية.
من هنا كان لزاماً على الجميع إيلاؤه الاهتمام الذي يستحق وبذل كل الجهود والطاقات لتطويره وتحديثه، ليبقى مستمراً في العمل والإنتاج ضمن مفهوم الريعية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة التي يسعى الجميع لتحقيقها مع اختلاف الطرق ووجهات النظر في ذلك.
إلا أن الواقع يشير إلى عدم إعطاء القطاع العام الصناعي حقه من الرعاية والاهتمام، لاسيما ما يتعلق بالتطوير التكنولوجي والبحث العلمي وتأهيل العمالة بما يمكنها من التعرف، والتعامل مع متطلبات التكنولوجيا الحديثة، ووضع دفاتر شروط تنظم العملية الإنتاجية والتسويقية، تواكب التطورات الحاصلة في عالم الصناعة والتصنيع.
وبالتالي أهل الكار في عالم الإنتاج الصناعي في سورية ” العام والخاص” وخاصة في “مجال صناعة النسيج” متفقون من حيث الشكل على إجراءات التطوير وتنفيذها على ارض الواقع، لكنهم مختلفون من حيث المضمون إلى حد ليس بالبعيد كثيراً، عن المطلوب لاختلاف المصالح هنا وسرعة العائدية الاقتصادية المطلوبة.
سمحا: وضعنا وثيقة وطنية يمكن البناء عليها تحمل إجراءات قصيرة وطويلة الأجل للنهوض بالصناعة انطلاقًا من حاجتنا لخطة استثنائية في ظل الأزمة الحالية
” الحرية” حاولت إلقاء نظرة من بوابة أهل الكار في القطاع الصناعي الخاص عن طريق نور الدين سمحا عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، رئيس القطاع النسيجي بالغرفة للاطلاع على واقع الصناعة السورية خلال المراحل السابقة، والإستراتيجية التي أجمع عليها الصناعيون واعتبروها وثيقة أساسية يمكن البناء عليها مستقبلاً تتضمن إجراءات قصيرة، وطويلة الأجل، للنهوض بالصناعة انطلاقًا من الحاجة إلى خطة استثنائية في ظل الأزمة الحالية.
واقع راهن
وقبل الدخول في متن الموضوع لابد أن نعرج قليلاً نحو الوضع الراهن للصناعة الوطنية، حيث أكد سمحا على الآثار الاقتصادية السلبية التي تركتها سنوات الأزمة السابقة على جسم الصناعة والتي يمكن تحديدها في عدة نقاط أساسية منها: تدمير البنية التحتية – هجرة المستثمرين والكفاءات، انخفاض حاد في الناتج المحلي والصادرات، وارتفاع منسوبي الفقر والتضخم، إلى جانب آثار محددة على الصناعة منها: خروج عدد كبير من المنشآت عن الخدمة، وهجرة الصناعيين وارتفاع التكاليف الإنتاجية، إضافة إلى تراجع العمالة المنتجة، والإنتاج وخسارة السوق المحلية أيضاً.
صناعة الخاص
القطاع الخاص لم يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الآثار السلبية للأزمة بل أظهر مرونة نسبية، بالمقابل عانى من خسائر كبيرة في المنشآت والموارد البشرية، وانخفاض في العمالة ما أثر على الإنتاج والنوعية.
تحليل منطقي
وبدراسة تحليلية للواقع نجد هناك الكثير من نقاط القوة، تقابلها أيضاً نقاط ضعف، لكن نقاط القوة استندت في معظم الأحيان إلى مكونات محلية، وخاصة ما يتعلق بالموارد الطبيعية المتنوعة، وطاقات كامنة لصناعات تكنولوجية، إلى جانب سمعة جيدة لبعض المنتجات، والأهم إمكانية تعزيز التشابكات القطاعية.
وأضاف سمحا: مقابل ذلك لا يمكن تجاهل نقاط ضعف تؤثر سلباً على الإنتاجية الصناعية نذكر منها على سبيل المثال لا التحديد: ضعف مساهمة الصناعة التحويلية، وتدني مستويات البنية التحتية والإنتاجية، ونقص التمويل، وغياب المدن الصناعية المطلوبة، دون تجاهل هجرت الكفاءات التي زادت خلال سنوات الأزمة وما زالت..!
فرص مشجعة
لكن هناك فرص مشجعة لتحقيق إنتاجية مستمرة، وصناعة قابلة للتطويع مع كل جديد، وهذه الفرض في رأي” سمحا” الترابط الفعال بين الزراعة والصناعة وتوافر مواد خام محليًا، مع إمكانية كبيرة للتصدير إلى الأسواق العالمية كتركيا وغيرها، ناهيك بوجود موارد بشرية ماهرة.
سمحا: القطاع الخاص لم يقف مكتوف الأيدي أمام سلبيات الأزمة وأظهر مرونة نسبية.. بالمقابل عانى خسائر كبيرة في المنشآت والموارد البشرية ما أثر على الإنتاج والنوعية
لذا لابد من خيارات استراتيجية تحدد هوية المرحلة المقبلة، والتي تكمن في الاعتماد على القطاع الخاص، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، والأهم الاعتماد على التصنيع الموجه للتصدير، والاستثمار في الصناعات المستقبلية التي تضمن النجاح المستمر لتنافسية منتجاتنا، وهذا لن يتحقق إلا بمعالجة فورية تقوم على محددات أساسية تنطلق في خطواتها الأولى من العملية الطارئة إلى التنمية الشاملة، وترتيب الأولويات، وتطبيق التنمية المحلية، إلى تنفيذ مرحلتين: الأولى التعافي ومن ثم التنمية الشاملة، ووضع أهداف رئيسية تشمل دعم الإنتاج المحلي، إعادة هيكلة المنشآت، وتقليل الهدر إضافة لتوفير فرص العمل، وتحسين مفردات التنافسية.
مقترحات للتنفيذ
لكن أمام هذا الواقع لابد من وجود آليات تنفيذية تنطلق من الواقع الفعلي للصناعة الوطنية، تنطلق من إصلاح البيئة التشريعية والإدارية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وخاصة ما يتعلق بالترخيص الصناعي، إلى جانب مراجعة قوانين الاستثمار والصناعة بما يتلاءم مع الظروف الحالية، ومكافحة الفساد وتحسين الشفافية في منح التسهيلات والدعم، وتحفيز الصناعات ذات الأولوية، وخاصة الصناعات الغذائية، والدوائية والنسيجية، باعتبارها الأكثر جاهزية وتماشياً مع حاجات السكان، والإجراء الأهم يكمن في دعم الصناعات التصديرية التي تحقق قيمة مضافة وتساهم في تأمين القطع الأجنبي، ووضع برنامج وطني لدعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وإطلاق حزمة تمويلية مدعومة موجهة لإعادة تشغيل المعامل الصغيرة، مع تقديم حوافز ضريبية، وجمركية مؤقتة لتسهيل عودة الإنتاج، وتحقيق تنمية الموارد البشرية الصناعية من خلال وضع برامج تدريب وتأهيل بالتعاون مع التعليم الفني والجامعات.
والأهم من ذلك في رأي “سمحا” العمل على استعادة الكفاءات المهاجرة، عبر تسهيلات العودة وتقديم حوافز تشغيل، دون أن ننسى عاملاً مهماً يكمن في تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، من خلال إحداث مجالس استشارية مشتركة على مستوى المحافظات لمتابعة تنفيذ الاستراتيجية والمقترحات المذكورة وتشجيع عقود الشراكة في مشاريع البنية التحتية الصناعية والخدمية، وإعادة تأهيل المناطق الصناعية والمستخدم الصناعي، إلى جانب توجيه الاستثمارات لإعادة تأهيل البنية التحتية (طاقة، مياه طرق، والاتصالات)، وتحسين تنفيذ مناطق صناعية جديدة في المحافظات غير المخدومة سابقًا.
مؤشرات النجاح
ولتقييم عملية النجاح لابد من وضع مؤشرات يمكن من خلالها تحديد قوتها وقياس تأثيرها، تنطلق هذه المؤشرات من عدد المنشآت التي تعمل سنويًا، ومعدل نمو مساهمة الصناعة في الناتج المحلي، ومعدل نمو الصادرات الصناعية، وعدد فرص العمل الصناعية الجديدة، إلى جانب مؤشرات رضى المستثمرين والقطاع الصناعي الخاص.
إجراءات لابد منها
إجراءات لابد من العمل على تحقيقها تتفق مع ما ذكرناه سابقاً، تبدأ خطواتها الأولى في تعزيز القدرة التنافسية للمنتجات الصناعية، وتحسين الجودة والتكلفة عبر تحسين العمليات الإنتاجية، وتقنيات مناسبة، ورفع كفاءة العمالة، وخفض تكاليف المدخلات، وتطبيق الجودة الشاملة للوصول إلى الأسواق الدولية ورفع الوعي الصناعي بالمواصفات العالمية، ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة لتشجيع الابتكار..
شعيب: الروتين والبيروقراطية والمنفعة الشخصية وقِدم خطوط الإنتاج وعدم إدخال التكنولوجية الحديثة دمر مكونات تطوير المنتج الوطني..!
إلى جانب إجراء مهم أيضاً يكمن في البنية التمكينية للقطاع الصناعي مراكز التحديث والتدريب إنشاء مركز لتحديث الصناعة وهيئة خاصة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وحماية الصناعة الوطنية من خلال تفعيل دور الجمارك ومراقبة السلع المستوردة ومنشآتها، وضبط الحدود ومنع التهريب، وتطبيق قوانين حماية الملكية والصناعات الناشئة. واتخاذ إجراءات اقتصادية داعمة كتعديل الضرائب والتأمينات وتخفيض رسوم الاستيراد والإنتاج، تطوير بيئة الاستثمار الصناعي، ووضع خريطة استثمارية توضح الصناعات ذات الأولوية خاصة الصناعات التصديرية التكنولوجية، الريفية، والصغيرة والمتوسطة، والعمل على تحقيق الشراكة بين العام والخاص لإنشاء مشروعات صناعية إستراتيجية، ودعم قطاع التصدير بكل مكوناته، والجانب الذي يحتل الجانب الأوسع بهذه المقترحات يكمن في ضرورة تعزيز دور غرف الصناعة في تدريب الكوادر، وتطوير برامج التلمذة والتدريب العملي، والتنسيق مع وزارة العمل لتشغيل مضمون وحملات توعية بأهمية المهن الصناعية.
متفقون في الأسباب
كثير من النقاط المذكورة سابقاً كانت موضع اتفاق مع الخبير الاقتصادي المهندس جمال شعيب والذي رافق تطور الصناعة الوطنية لسنوات كثيرة، شاهد فيها مراحل تراجع، وخسارات في بعض مواقعها، ونجاحات سجلت فيها دخول المنتج السوري لأكثر من 85 دولة، ويقول شعيب لـ”الحرية”: إن الصناعة المحلية شهدت خلال المراحل السابقة نمواً متصاعداً وخاصة الخاص، وسجلت حضوراً متميزاً في الأسواق العالمية، ومعارض شهدت لها بالتفوق والتميز، نذكر على سبيل المثال معرض” كولد فوت” وحالياً يتم التجهيز له لإنجازه على أرض مدينة المعارض في سورية، وهذا يؤكد نجاح السلعة الوطنية في الأسواق الخارجية وخاصة ” القطاع الخاص” وذلك خلافاً لما يتعلق بالمنتج العام الذي شهد معاناة ومشكلات كثيرة، لعلها تبدأ بالروتين والبيروقراطية، وقِدم خطوط الإنتاج، وعدم إدخال التكنولوجية الحديثة والمتجددة باستمرار، والتركيز على منتجات محددة استهلاكية، لا تحتاج للتميز والدقة المطلوبة على اعتبارها مسوقة داخلياً بالكامل، منها على سبيل المثال ” المياه، والكونسروات ، وشركات الإسمنت وغيرها”..
تغيير العقلية
وأضاف شعيب: نحن بأمس الحاجة لتغيير العقلية الصناعية التي تتبنى استراتيجيات التغيير والتبديل، والتماشي مع محدثات وتقنيات كل مرحلة، وتغيير عقلية العمل، لاسيما البيع والشراء، وتطبيق القوانين، وحتى ما يتعلق بعقلية التسويق، علماً أن القطاع العام يمتلك إمكانات كبيرة جداً، يستطيع من خلالها بناء قاعدة صناعية متطورة قادرة على التأقلم مع كل جديد، وتمتلك مقومات المنافسة والبقاء بقوة في الأسواق المحلية والخارجية..
شعيب: فرصة أمام الحكومة لتحقيق الانتقال من منظومات إنتاجية غير فعالة إلى منظومات قادرة على تحقيق الاستقرار والبقاء في الأسواق
لكن للأسف الشديد العمل خلاف ذلك كان سيد الموقف، نمو بيروقراطية العمل، وتراجع الأداء الإداري، وفساد معظم جهازه، وعدم تحديث خطوط الإنتاج، أدت الى حالة من التخلف الصناعي لدى القطاع العام كان من الصعب تجاوزه.
وبالتالي هذا الواقع فرض حالة تسويقية صعبة للمنتج المحلي، مقابل ما يدخل الأسواق المحلية من منتجات بصورة نظامية، أو تهريب لا نمتلك منافستها من حيث السعر ولا من الجودة، وغالباً تلك التي تدخل تهريباً تتمتع بسعر أقل، وجودة سيئة، مقابل تكاليف مرتفعة، وأسعار مرتفعة للمنتج المحلي، والحل يكمن في إيجاد عملية توازن بين التكاليف الفعلية وما يترتب عليها من مدفوعات، وبين الجودة التي تضبط إيقاع في الاسواق.
استراتيجيات ملغومة
“شعيب” لم يخفِ سعي الحكومات المتعاقبة لوضع استراتيجيات العمل التي تضمن النهوض بالواقع حيث كانت تناقش على أعلى المستويات في الحكومة والجهات الإدارية الأخرى، إلا أن هذه الخطط كان مصيرها الفشل لأسباب مختلفة منها على سبيل المثال: عدم توافر السيولة المطلوبة لتطبيق آليات التغيير والإصلاح والتحديث لمكونات العملية الإنتاجية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التراجع والفشل، ونمو فساد إداري ومالي رافقها تفضيل المصلحة الخاصة على العامة، ونشوء بيروقراطية مقنعة كانت السبب في تدمير قوة الإنتاج المحلي خلال العقود الماضية، وخاصة لدى جهات التصنيع العامة، وهذه أدت لقوقعة أنظمة العمل على نفسها وعدم تماشيها مع أنظمة العمل وحالات التغيير التي طرأت عليها في الأسواق العالمية، وبالتالي حدوث حالة تخلف على مستوى التصنيع لا نحسد عليها..!
وللخروج من هذا الواقع لابد من تغييرات فورية مطلوبة على ارض الواقع، تبدأ بتغيير العقلية الإدارية والإنتاجية، ليس في القطاع العام فحسب بل والخاص أيضاً، والدخول بتشاركية فعالة، واستثمارات تحقق المنفعة المتبادلة لكلا الطرفين من استثمار الشركات المتوقفة والقائمة، وتعديل كل الأنظمة والقوانين القديمة والحديثة، وهذا التحديث يتماشى مع الجديد، وينهي بيروقراطية العمل، وضمان حرية التفكير والتنفيذ وسداد الرأي، إلى جانب توفير السيولة الازمة التي تمثل قوة التنفيذ الأولى في عمليات التغيير، وتطوير الآليات، والعمل أيضاً على تخفيض التكاليف وتصويبها باتجاه مكون تأمين المنافسة للمنتج الوطني، وخاصة أن معظم منتجاتنا تعتمد على المواد الأولية المتوافرة محلياً، والاهم تغيير عقلية التسويق، وهذا لن يتم إلا بتحقيق تشاركية واضحة وصريحة مع القطاع الخاص وتبني استراتيجية تعاون تحت مظلة منتج وطني واحد، عندها نقول الصناعة الوطنية خرجت من نفق الصراع على البقاء، وفرضت نفسها وبقوة في السوق المحلية والخارجية على السواء..
موافقة في الرأي
يمكن أن نوافق الجميع في هذه النظرة التحليلية لواقع صناعتنا الوطنية، التي استباحتها، عقلية متفردة في القرار والتحكم في آليات التنفيذ التي طغت عليها المصالح الخاصة، وظهور فلسفة فساد مكونها الجهاز الإداري، الذي تغنى بمصالح شخصية، وتفضيل منفعته الشخصية على حساب العمل، تحت عنوان “ماذا أستفيد.. وما هو نصيبي من كل عملية إنتاجية وتسويقية”، هذه العقلية دمرت صناعتنا وحكمت عليها بالتخلف إلى يومنا هذا..
والسؤال هنا هل تستطيع الحكومة اليوم إعادة بناء جسور الثقة لمنتجاتنا الوطنية، والتخلص من عقليات الزمن البائد في العمل والإنتاج وحسابات المصلحة وغيرها..؟
بانتظار ما تحمله الأيام القادمة لبناء صناعة وطنية، تعيد فيها أمجاد وجودها في أوسع بلدان العالم والتي زاد انتشارها في أكثر من 85 بلداً..