الحرية: مجد عبيسي:
في خضم بحر متلاطم، يلوح أمامنا خطر عميق وألغام مباغتة: (زمن وسائل التواصل الحديثة). هناك، يُسرق الوقتُ في متابعة “الريلز” ومقاطع الفيديو القصيرة، حيث تلتقط العين سريعاً صوراً عابرة، وتُمدّ الأذهان بمحتوى سطحي، يصيب حياة الإنسان بالفراغ والتشتت، ويُهدر عمره الثمين في محتوى عابر، لا يُضيف إلى رصيده الفكري والمعرفي شيئاً.
وبينما تتصارع هذه السرعة مع رغبتنا في المعرفة والتفقه، يبرز سؤال محوري: كيف نحافظ على وقتنا في زمن تُهدِر فيه الشاشات حياة الإنسان، ونحافظ على نبض فكرنا من الزيف؟
القراءة، بعمقها وأصالتها، تظل الصفة التي تُنقِّي النفس وتُثري العقل، وتُعزز قدراتنا على التركيز والتفكير النقدي.
هذه العادة المهجورة هي في الحقيقة ليست مجرد عادة، بل ركيزة أساسية في بناء الإنسان الواعي، الذي يفرّق بين المحتوى المفيد والسطحي، بين الفكر العميق والمتعة العابرة.
وكل دقيقة نقضيها في المطالعة، كأننا نستثمر عبق زهرة في بستان العمر، تنمو وتثمر أريجاً محيطاً، بينما المحتوى الزائف يأخذنا نحو أفق ضئيل، يلهينا عن جوهر الإنسان وروحه.
عدا عن أنه -صحيّ- فبالقراءة يُقوّم العقل، ويُحافظ على نضارته، ويَحُد من مظاهر التدهور المعرفي مع التقدم في العمر، إذ تُعدُّ المطالعة بمثابة تمرين دائم للذاكرة، تخفف من وطأة التوتر والقلق، وتخلق بيئة هادئة تسري في الأعصاب، فتشرع العقول في الاسترخاء والتوازن النفسي.
لكن، كيف نُحِيطُ بمخاطر الشاشات المضيئة التي تطرق باب العقل؟ وكيف نحافظ على أوقاتنا من هدرها في المحتوى غير الهادف؟
من المهم تحديد أولوياتنا وتخصيص وقت معين للقراءة، يكون خالياً من الانقطاعات، بحيث يُصبح عادة يومية، كجزء من روتيننا اليومي ولو كانت بضع صفحات.
كما ينبغي علينا تقييم مصادر المعرفة، واختيار المحتوى العميق، الذي يُضيف ويرفع من مستوى فكرنا، ويجعل من وقتنا استثماراً حقيقياً لا مجرد هواء يتنفس.
وهنا نشير إلى أهمية التوازن، فليس معنى ذلك إلغاء وسائل التواصل، بل أن نكون أذكياء في اختيار ما نستهلكه من محتوى.
فبدلاً من هدر الوقت في فيديوهات قصيرة وعابرة، لنصنع لأنفسنا حفلات فكرية داخل عقولنا بقراءة كتاب إلكتروني، أو الاستماع له أو لمحاضرة ثرية، أو الاطلاع على مقال يثري رؤيتنا، ويُعزز مداركنا.. وفي نهاية كل مدخل بصري إلى عقولنا لنسأل: ماذا زاد هذا لخبراتنا المعرفية وماذا استفدنا؟
وفي النهاية لا يمكننا سوى توخي الحذر، لأن الاختيار غير السليم في زمن اللحظة السريعة الناجم عن سطوة التقنية، يُبدد فرصة التفكير العميق، ويُضعف القدرة على التحليل، ويُشوه للإنسان مسار النمو الذاتي، ويُشَتّت قدراته على التفاعل مع النصوص والمعرفة الحقيقية.
أما القراءة العميقة المثرية، فهي التي تصنع الإنسان، وتُبني فكره، وتُهدِّه لأفق أوسع من الوعي، وتُعزز قدرته على التركيز، فكل ساعة نقضيها في عمق الكلمات وبتولية البصر، تُصبح استثماراً في عقولنا، ووقوداً لنماء فكرنا، ومشكاة لننير حياة الآخرين، ودرعاً يحمي مجتمعنا من الانصهار في بحر الهاوية.
بين عمق الكتاب وزيف المحتوى السريع.. كيف يمكننا إدارة الوقت؟

Leave a Comment
Leave a Comment