الحرية – نهى علي:
بدأ مصرف سوريا المركزي بمعالجة ” ركام” الخلل المزمن في السياسة النقدية، إلا أن آراء الخبراء تبقى قيمة مضافة، ويمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة للإدارة النقدية.
وثمة معضلة كبيرة تتمثّل بتقييد السحوبات النقدية من حسابات الزبائن لدى المصارف المحليّة، وهو إجراء قديم درجت عليه السلطة النقدية منذ سنوات تحت مزاعم الحدّ من المعروض النقدي بالليرة السورية، للحد من ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الليرة.. إلا أن الإجراء أعطى مفعولاً عكسياً، إذ لم يتم كبح جماح الدولار، وتم حجب الليرة السورية عن الفعل التنموي الحقيقي، فكان الركود هو النتيجة الصعبة.
اليوم ماذا عن سياسات ” المركزي”.. وماذا عن القرار الذي صدر مؤخراً بخصوص السماح بسحب المبالغ المودعة بعد تاريخ 7/5/2025 بدون سقوف محددة ؟
هل سيسهم الإجراء باستعادة الثقة بالبنوك السورية..؟ وما هو تقييم القرار من وجهة نظر الخبراء والأكاديميين ؟
• د. قوشجي: الحكومة الحالية ورثت نظاماً اقتصادياً مُنهاراً.. احتكارياً ريعياً هيمن بقوة على مقدرات الشعب المعيشية وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ شمولي
أوجاع مزمنة
يعود الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، في إجابته على تساؤلات ” ا
لحرية”، قليلاً إلى الوراء، فهو يشرح أن الحكومة الحالية ورثت نظاماً اقتصادياً مُنهاراً، لا يُمكن توصيفه علمياً إلا بكونه نظاماً احتكارياً ريعياً، هيمن بقوة على مقدرات الشعب المعيشية وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ شمولي.
وقد اعتمد هذا النظام البائد على تحكّمه المُطلق في توزيع الدخل الوطني لصالح فئات مُوالية، عبر توظيف سياسات مصرف سورية المركزي لتحويل دور الجهاز المصرفي من مُموّن للاقتصاد إلى أداة ثانوية لجمع السيولة النقدية وتوجيهها وفقاً لأجندة النظام السابق، ما أفقد الثقة بين القطاعين الاقتصادي والمصارف بشكلٍ كامل.
• الإصلاح النقدي الجذري – وإن كان مُكلفاً أو مؤلماً لبعض الأطراف – هو الحل الوحيد لإعادة بناء النظام الاقتصادي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحر
من هنا يؤكّد الدكتور قوشجي، أن الإصلاح النقدي الجذري – وإن كان مُكلفاً أو مؤلماً لبعض الأطراف- إلا أنه هو الحل الوحيد لإعادة بناء النظام الاقتصادي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحر، وهو ما دعا إليه مراراً كخطوة أساسية لبدء مرحلة التعافي. فالإصلاحات الجزئية، من وجهة نظره – مثل القرار الأخير الخاص بسحب النقود المودعة نقداً بعد تاريخ 7/5/2025 (Fresh funds) والذي يستثني أرصدة الحسابات القديمة (Idle funds) لن تعيد الثقة المهترئة، بل ستزيد من ارتباك القطاع المصرفي.
• تراكم القيود على سحب العملات المحلية والأجنبية على مدى عقدٍ كامل دمّر مصداقية الجهاز المصرفي ولم يعد ممكِناً تجاوز هذه الأزمة دون مراجعة شاملة لسياسات المصرف المركزي
مبررات مقنعة
ويبرّر وجهة نظره بأن تراكم القيود على سحب العملات المحلية والأجنبية على مدى عقدٍ كامل دمّر مصداقية الجهاز المصرفي، ولم يعد ممكِناً تجاوز هذه الأزمة دون مراجعة شاملة لسياسات المصرف المركزي، خاصةً تلك المُتعلقة بإدارة السيولة وتحرير النقد.
كما أن حجز السيولة (تجميد الأموال أو تقييد تدفقها في الاقتصاد) له آثار اقتصادية سلبية واسعة، خاصة إذا استمر لفترات طويلة أو تم تطبيقه بشكل عشوائي.
• حجز السيولة ليس حلاً لأزمات الاقتصاد بل هو “مسكّن مؤقت لسعر الصرف” يُفاقم الأزمة على المدى المتوسط والطويل
آثار قاسية
وبشكل منهجي يشرح د. قوشجي أبرز الأضرار الاقتصادية المترتبة على هذه السياسة، وتتمثّل بتراجع النشاط الاقتصادي أولاً، إذ إن تقييد السيولة يحد من قدرة الأفراد والشركات على الوصول إلى أموالهم، ما يُقلل الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، ويُبطئ نمو الاقتصاد.
إلى جانب تعطيل دورة الإنتاج ثانياً، فالشركات بحاجة إلى سيولة لتمويل عملياتها اليومية (شراء مواد خام، دفع أجور، صيانة آلات)، وحجز الأموال يعرقل هذه العمليات ويُهدد بتوقف الإنتاج.
ثم تفاقم الأزمة النقدية ثالثاً، فعندما يُمنع الأفراد من سحب أموالهم، يفقدون الثقة في المصارف، ما يدفعهم إلى تخزين النقد خارج النظام المصرفي (تحت البلاطة)، ما يقلص السيولة المتاحة للاقتصاد.
هذا إلى جانب انتشار السوق السوداء رابعاً، أي تظهر أسواق موازية لتبادل العملات بأسعار غير رسمية، ما يفاقم انهيار قيمة العملة المحلية.
وبالتالي بعد كل ذلك.. فقدان جاذبية الاقتصاد خامساً، فحجز السيولة يُرسل إشارات سلبية للمستثمرين الأجانب عن عدم استقرار البيئة الاقتصادية، ما يدفعهم إلى تجنب الاستثمار أو سحب استثماراتهم الحالية.
• يُفضّل أن يشمل أيضاً المبالغ المحولة بين الحسابات المصرفية وبين المصارف ما سيساهم في زيادة هامش الثقة
تجارب لم تنجح
ويذهب الخبير قوشجي إلى سرد حالات تاريخية توضح الأضرار المعالجات الجزئية لإدارة النقود.
– لبنان (أزمة ٢٠١۹): حجز المصارف لودائع المودعين أدى إلى انهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات الفقر إلى أكثر من ٨٠٪.
– اليونان (أزمة ٢٠١٥): فرض قيود على سحب اليورو من البنوك كاد يؤدي إلى خروج اليونان من منطقة اليورو.
– فنزويلا: طباعة النقود لتعويض نقص السيولة أدت إلى تضخم تجاوز ١٠٠٠٠٠٪.
ونفهم من كل ماسبق أن حجز السيولة ليس حلاً لأزمات الاقتصاد، بل هو “مسكّن مؤقت لسعر الصرف” يُفاقم الأزمة على المدى المتوسط والطويل. الحل الجذري يكمن في معالجة الخلل الهيكلي عبر إصلاحات مؤسسية، وشفافية في السياسات النقدية، واستعادة الثقة بين المواطن والنظام المصرفي.
فالمشكلة الجوهرية لا تكمن في القرارات الجزئية، بل في غياب رؤية إصلاحية تُعيد هيكلة النظام النقدي من جذوره، وتقطع آليات الهيمنة والاحتكار التي حوّلت المصارف إلى أدوات لخدمة النخبة. فاستعادة الثقة تتطلّب إصلاحاً مؤسسياً حقيقياً، وليس إجراءات جزئية تتعامل مع الأعراض دون المسببات.
• الفيومي: ربما كان توقيت تعميم ” المركزي” الجديد لتوقع قرب إعادة عمليات الانتقال في البيوع العقارية والتشجيع على وضع القيمة في المصارف وربما لن نشهد تغييراً كبيراً في موضوع شرط إيداع نصف القيمة وباقي شروط البيوع العقارية
التباس
بدوره الخبير المصرفي أنس الفيومي، وهو صاحب خبرة مصرفية عملية مديدة، وفي تعليقه على قرار فتح سقوف السحب لإيداعات ما بعد السابع من أيار، يرى الفيومي في تصريحه لـ” الحرية” أنه من القراءة الأولية للقرار المذكور قد يبدو في ظاهره أنه تشجيع لإعادة الثقة بالمصارف وتحرير الحسابات من قيود السحب بما يخص الحسابات المغذاة بعد التاريخ المحدد، وبعد النظر في القرار من وجهة نظر مصرفية يمكن وضع عدة ملاحظات.
ويضيف الفيومي: كنت أتمنى على إدارة المركزي في أوائل قراراتها أن يكون أكثر وضوحاً وشفافية في صياغة القرار فمن ناحية الوضوح ما هو مبرر تمييز الإيداعات قبل وبعد 7/5 فعدا عن أن ذلك سيخلق إشكالية في تطبيق القرار للمصارف، وقد (أقول قد) يزيد من إمكانية التجاوز والفساد، بالتالي هذا لن يسهم في إعادة الثقة بالتعامل المصرفي لأن اغلب المودعين كانت حساباتهم قبل التاريخ المذكور.
• السلطة رقابية لـ”المركزي” يجب أن تشمل الجوانب الأخرى الإشرافية والاطلاعية على واقع السوق والاقتراب أكثر من شريحة التجار والصناعيين وما يجري بسوق الصرافة
بحث عن الجدوى
من جانب آخر جاءت الصياغة (الحسابات المغذاة) فهل المقصود أن أي حساب موجود تتم تغذيته مجدداً يتحرر من قيود السحب حتى للمبالغ المودعة في ذات الحساب قبل هذا التاريخ، أما بالنسبة للشفافية ما هو مبرر إيراد الحسابات المصنفة على أنها ودائع لأجل، وأكاد أجزم أن هذا النوع من الحسابات أصبح شبه معدوم بالمصارف وخاصة المصارف العامة منذ أن فرض المركزي قيود السحب، فهل من المتوقع أن يتم فتح حساب وديعة لأجل في 7/5 وتكسر بعد أيام وخسارة فوائدها، حبذا لو تم إحصاء عدد هذه الحسابات قبل إيرادها في التعميم.
ويرى الفيومي أن هذا التعميم ليس دافعاً لإعادة الثقة في المصارف بعد الهزات التي أصابت العمل المصرفي، وخاصة عندما تم ربط موضوع البيوع العقارية بشرط إيداع نصف القيمة الرائجة وتحريرها وفق شروط، ربما كان توقيت هذا التعميم لتوقع قرب إعادة عمليات الانتقال في البيوع العقارية والتشجيع على وضع القيمة في المصارف وربما لن نشهد تغييراً كبيراً في موضوع شرط إيداع نصف القيمة، وباقي شروط البيوع العقارية.
هذا إلى جانب أن اشتراط أن تكون المبالغ المودعة نقداً فقط دون المبالغ المحولة يؤكد ما ذهبنا إليه في الفقرة السابقة، وهذا الاشتراط سيؤثر حتماً بشكل كبير على موضوع الثقة بالمصارف.. ويقول: أرجو أن يشمل أيضاً المبالغ المحولة بين الحسابات المصرفية وبين المصارف ما سيساهم في زيادة هامش الثقة عدا عن ذلك سيقضي على التجارة الرائجة في هذه الأيام بين أصحاب الحسابات القديمة وبيع الأرصدة مقابل الحصول على سيولة بسعر صرف يزيد على 4000 ليرة للدولار الواحد كحد أدنى.
ويختم الخبير الفيومي حديثه لصحيفتنا: بدأ التعميم بالتنويه عن السلطة رقابية للمركزي، أرجو أن تشمل الجوانب الأخرى الإشرافية والاطلاعية على واقع السوق والاقتراب أكثر من شريحة التجار والصناعيين وما يجري بسوق الصرافة.