الحرية – د. رحيم هادي الشمخي:
كما كانت دول الجوار السوري متضرراً أساسياً من العقوبات المفروضة على سوريا، فهي اليوم مستفيد أساسي من رفع هذه العقوبات، وهذا أمر بدهي على قاعدة الجغرافيا الجامعة التي تتوحد معها الدول المتجاورة في المكاسب والمصالح كما في الخسائر والمِحن، في هذه المعادلة يشكل العراق طرفاً حاكماً، بمعنى أنه يشكل بالنسبة لسوريا طرفاً قوياً في المعادلة الاقتصادية الداخلية ما بعد رفع العقوبات الأمريكية ثم الأوروبية.
لطالما شكل العراق امتداداً اقتصادياً لسوريا بمعنى مختلف عن دول الجوار الأخرى، لبنان، الأردن وتركيا، والعراق بموقعه وثرواته يتمايز عن لبنان والأردن اللذين يعتمدان في اقتصادهما على الجوار وعلى المساعدات الخارجية، ويشكل العراق قوة اقتصادية يمكن لها أن تصب بقوة في خدمة الاقتصاد السوري، هذا ما كان يُفترض أن يكون، لكن السياسة دائماً ما لعبت بصورة معاكسة لتنتفي المنافع الاقتصادية بين البلدين، ومن نافل القول الحديث عن ابتلاء المنطقة لعقود بـ «محاور» عمقت- من جهة- حالة فقدان المنافع وبما حاصر كل نهوض اقتصادي ودفن كل إمكانية لقيام تكتلات اقتصادية في المنطقة على غرار تكتلات عالمية مثل «آسيان» رغم أنّ كل مقومات التكتل والنجاح قائمة، وتالياً لم تأخذ دول المنطقة الغنية بمواردها وثرواتها دورها ومكانتها المستحقة على ساحة الفعل والتأثير الدولية.
ومن جهة أخرى فإن هذه «المحاور» عمّقت التداعيات الكارثية للعقوبات الغربية، لتطول آثارها الجميع، وليس سوريا فقط، لذلك ومع سقوط النظام في سوريا في 8 كانون الأول الماضي وصعود قيادة سورية جديدة، كان هناك عمل دائم(عربي- إقليمي) باتجاه رفع هذه العقوبات، نجح في الـ13 من هذا الشهر في رفع العقوبات الأمريكية، وفي الـ20 منه في رفع العقوبات الأوروبية.
كان العراق في مقدمة المرحبين برفع العقوبات معتبراً أنها تفتح آفاقاً واسعة للتعاون، وحتى للتكامل وتحقيق شراكة اقتصادية إستراتيجية مع سوريا، وسبق للعراق في منتصف آذار الماضي أن طرح فكرة تأسيس «مجلس تعاون» خلال مؤتمر صحفي، حينها، بيّن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «إضافة إلى طرح إنشاء غرفة عمليات لمحاربة تنظيم داعش»، وشدد الوزير حسين حينها على أنّ «الاستقرار في سوريا يهم العراق، فهو يؤثر مباشرة في الوضع في البلاد» مؤكداً أنّ «العلاقات مع سوريا تاريخية وأنه تمت مناقشة تطوير العلاقات الاقتصادية لتكون الفائدة مشتركة للشعبين».
بدورها، ردت سوريا بصورة ودّية/متعاونة في سبيل تطوير العلاقات. في 17 أيار الجاري قال الوزير الشيباني- على هامش أعمال القمة العربية الخامسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي انعقدت في بغداد بالتزامن مع انعقاد القمة العربية في دورتها الـ34 وكان الشيباني يُمثل سوريا فيها.. الشيباني قال رداً على سؤال حول تطوير العلاقات:«نحن نذهب إلى المكان الذي يختاره العراق في هذه العلاقة»، المحللون قرؤوا حينها تصريحات الشيباني بأنها رغبةٌ سوريّةٌ في إعادة بناء العلاقات على أساس الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك.
في المسار الاقتصادي يركز العراق على الأمن والاستقرار، ويرى أن رفع العقوبات يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار، فهناك ارتباط عميق بينهما؛ بقدر ما يؤدي اتساقهما إلى تعميم الفوائد، يؤدي تنافرهما إلى بقاء العقوبات واستمرار الانفلات والفوضى الأمنية.
.. والآن تمّ رفع العقوبات فماذا عن تحقيق الأمن؟
الجواب متروك للأيام المقبلة، وما إذا كان رفع العقوبات سيقود إلى تعزيز الأمن والاستقرار، وهذا ينسحب على عموم المنطقة وليس على سوريا فقط.
بالمجمل فإنّ رفع العقوبات سيقود بلا شك إلى تعزيز المسارات الاقتصادية، وهذه ستقود بدورها إلى تعزيز الأمن والاستقرار، على قاعدة أنّ الرخاء الاقتصادي يدفع الناس باتجاه حمايته والدفاع عنه، أي عدم التفريط به، ومن البدهي القول إنّ جميع الدول ترى في الأمن ضمانة أساسية لدخول استثماراتها إلى سوريا، ومنها العراق فكيف سيكون دوره وتأثيره في المرحلة المقبلة؟
في إطار استثمارات وشراكات إقليمية/ دولية، من المنتظر أن تتحقق، فإنّ العراق يسعى لأن يكون في مواقع متقدمة، سواء على مستوى التبادل التجاري أو على مستوى الشركات ومشاريع إعادة الإعمار في سوريا، أو على مستوى الطاقة، حيث إن انخفاض تكلفة الاستيراد وحرية التعاون الاقتصادي وحيث إن المنتجات السورية ستكون متاحة مع أسواق متوفرة «بفعل رفع العقوبات» سيعود كلُّ ذلك بفوائد كبيرة على العراق «وعلى سوريا بطبيعة الحال».
ما يدلل على ذلك أنه ومع العقوبات المفروضة على سوريا وصل حجم التبادل التجاري إلى ما يقارب المليار دولار سنوياً، فكيف والحال مع رفع العقوبات «وإن كان هذا المبلغ شهد تراجعاً كبيراً جداً خلال الأشهر الماضية، بعد سقوط النظام السوري بفعل ضبابية المشهد السياسي والأمني في سوريا»، اليوم مع رفع العقوبات ووضوح المسارات السياسية والتموضعات الإقليمية فإن العراق أحد أكبر المستفيدين من رفع العقوبات على سوريا.
قبل أيام، كان للمتحدث الرسمي باسم غرفة تجارة بغداد، رشيد السعدي، حديث مهم حول قرار رفع العقوبات عن سوريا، مشيراً إلى أنه «لم يكن ثمة ملامح واضحة لاستثمارات كبيرة بين البلدين في ظل الظروف السابقة والأحداث التي شهدها العراق لاحقاً» ومع ذلك كانت هناك استثمارات بسيطة قام بها بعض رجال الأعمال العراقيين في مجالات مثل بناء المصانع والشركات والمحال التجارية «والتي تأثرت تراجعاً بمسار التطورات في سوريا».
وحدد السعدي القطاعات المرجح أن تحقق استفادة كبيرة، وفي مقدمتها القطاع المصرفي، يليه قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والاستثمارات السياحية، بالإضافة إلى إمكانية استئناف تصدير النفط ومشتقاته.
لذلك فإن العراق يتفاءل بحدوث قفزة كبيرة في التعاون الاقتصادي وحجم التبادل التجاري وإن كان ذلك يبقى مرتبطاً أساساً بتوجهات القيادة السورية وقراراتها بخصوص من تريد التعاون معه على مستوى الاستثمارات وإعادة الإعمار، لا شك في أنّ هناك أولويات، وهناك مسارات سياسية ستضغط على المسارات الاقتصادية وسيكون لها تأثير في تحديد اتجاهات البوصلة الاقتصادية السورية.
أياً يكن ما ستتخذه تطورات المرحلة المقبلة في اتجاهات وقرارات على المستوى السوري، لطالما كان العراق، رغم تقلبات السياسية، ينظر إلى سوريا من موقع الأولوية المتقدمة، ولطالما كان الشعب العراقي على قلب واحد مع الشعب السوري، وإذا كان السوريون ينظرون إلى العراق كـ«منقذ اقتصادي» في أوقات الشدائد والمحن، فإن العراقيين أيضاً يتطلعون دائماً إلى سوريا لتكون «نِعمَ الجار» كما يقال، ولتكون العلاقات في أفضل حالاتها، مدعومة بروابط شعبية لطالما كانت متميزة ودافعة باتجاه تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية.
العراقيون يترقبون ويأملون أن تكون عملية رفع العقوبات فاتحة نحو علاقات جديدة مع سوريا لا تتأثر باصطفافات وتكتلات ولا تهزها رياح التغييرات والتقلبات مهما عصفت واشتدت.