الحرية – خليل اقطيني:
من العادات التي ما زال سكان الجزيرة السورية عموماً ومحافظة الحسكة خصوصاً محافظين عليها حتى يومنا هذا، هي تقديم الشاي بعد القهوة المرة، ولهذا تقاليده المتوارثة أباً عن جد والتي يحرص أبناء المنطقة على الحفاظ عليها واستمراريتها، من هذه التقاليد أنه إذا كان تقديم القهوة للضيوف (خص) عند أهل الحسكة وخاصة في الريف، فإن تقديم الشاي يكون (قص).
ويفضل أبناء الحسكة الشاي الذي (دردو بقـلبو) أي الذي يوضع السكر بداخله منذ البداية بحيث يغلى مع الشاي، ليصبح حلواً جداً، والقليل من سكان الحسكة وخاصة من سكان المدن أخذوا يفضلون أن يُقدّم السكر وحده إلى جانب الشاي، فمن يرغب بالسكر تتم إضافته له بالمقدار الذي يريد.
ولا بد أن يترافق إبريق الشاي مع طبق (الكليجة)، التي لا يخلو منها بيت حسكي في الريف أو المدينة في العيد.
فما الكليجة؟ ولماذا يحرص سكان المنطقة على وجودها في العيد؟
الأشهر والأقدم
(فعلاً لا عيد في الحسكة من دون “كليجة”، فهي حلوى العيد الرئيسة في هذه المحافظة). هذا ما بدأ الباحث في التراث عايش كليب حديثه عن “الكليجة” لصحيفتنا “الحرية”.
مبيناً أنها عـُرِفَت كواحدة من أفضل وأشهر النواشف وأنواع المعجنات و البسكويت في منطقة الجزيرة السورية بشكل عام وحتى الفرات، ومحافظة الحسكة بشكل خاص، ومن أقدمها على الإطلاق، واستطاعت المرأة الجزرية أو (الجزراوية) كما يحلو لأهل المنطقة أن يلفظوها ــ طوال الفترة الماضية أن تحافظ على جودتها وتحفظ سر خلطتها، حتى أوصلتها إلى موائد الأثرياء والملوك والبيوتات الكبرى.
فرائحة الكليجة المميزة والطيبة تنبعث قبيل العيد بأيام من أغلب بيوت أحياء الحسكة والمدن والقرى على امتداد المحافظة، حيث لا يكاد بيت جزري يستغنى عنها.
وهي نوع من المعجنات أو الحلويات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعيد لدى الحسكيين، وهي عبارة عن عجينة محشوة بالمكسرات والتمر، توضع في قوالب صغيرة بأشكال مختلفة وترص في وعاء كبير مربع أو مستدير الشكل، أو في (صينية) قبل وضعها في الفرن لتنضج.
كليجة وكليجاء
ويوضح كليب أن “الكليجة” تعد من الأشياء العديدة التي لا يمكن معرفة تاريخها في محافظة الحسكة، لغياب عنصر التوثيق لمثل هذه الأشياء. لكن المؤكد أنها تُستَخدم في المحافظة منذ قديم الزمان، لكن لا أحد يستطيع أن يحدد لهذا الأمر تاريخاً معيناً، مثلما لا يستطيع أن يحدد المصدر الذي جاءت منه، لكن البحث والتقصي عن هذا النوع من حلويات العيد، كشف أن “الكليجة” كلمة فارسية معناها حَـلَـَق الأذن، أو الشيء المستدير، وهي نوع من المعجنات الحلوة، ولها قالب خاص تُصنع به، يُعطي العجينة الشكل المستدير الذي عُرفت به.
والملاحظ أن “الكليجة” تكاد تكون حكراً على الدول المحيطة بإيران ولاسيما العراق وتركيا وسوريا ومن ثم انتقلت إلى بقية الدول كمصر والسعودية عن طريق التجار، ولهذا السبب تذكر كلمة “الكليجة” على الأغلب مقرونة باسم البلد الذي تُصنع فيه، فيقال “كليجة” جزراوية أو سورية و”كليجة” سعودية و”كليجة” عراقية وهكذا. وفي بعض البلدان تسمى “كليجاء”.
المنزلية أفضل جودة
ويؤكد كليب أن تصنيع “الكليجة” كان حكراً على النساء (الجزراويات) من مختلف الشرائح، حتى أواخر التسعينيات عندما فكّر بعض التجار بإنتاجها بكميات تجارية كبيرة، ويوجد الآن في مختلف أنحاء المحافظة عدد من المخابز المتخصصة بإنتاج “الكليجة” فقط. إلا أنه لا يزال هناك الكثير من الأهالي والسكان يفضلون تصنيع الكليجة في بيوتهم، حيث تقوم النساء حتى الآن بتصنيعها بمهارة فائقة.
وإذا كان أصحاب المخابز يدَّعون أن “الكليجة” المصنعة لديهم هي الأفضل والآمن، لأنها تخضع لشروط صحية ومقادير محددة وتحت الرقابة المستمرة، فإن “الكليجة” المنزلية هي الأكثر جودة، وهي “الكليجة” الحقيقية بحشواتها المعروفة، بالتمر أو الجوز أو الفستق أو خالية من الحشوة.
وفي القرى والأرياف يستخدم الموسرون السمن العربي في صنع “الكليجة” غير أن الكثير من النساء هناك ما زلن يستخدمن الشحم الحيواني المذاب والذي يسمى (الودج)، بدلاً من السمن العربي أو السمن المصنع، نباتياً كان أم حيوانياً، وبالتالي فإن “الكليجة” الجزراوية الريفية لم تدخلها المواد المضافة والحافظة أو الملونات ولا الخميرة الصناعية ولا الزيوت الصناعية، والتي يصر أبناء الريف على أنها مسخت “الكليجة” الأصلية.
أحجام وأشكال مختلفة
ويشير كليب إلى أن “الكليجة” تُنتَج بأحجام و أشكال مختلفة، وحشوات متعددة، أو من دون حشوة، وهذه تسمى “كليجة” عادية.
لافتاً الى أن “الكليجة” تكاد لا تنقطع عن جميع البيوت في محافظة الحسكة، وهي من الهدايا الغالية التي ترسل للأقارب والأصدقاء خارج المحافظة، أو تقدم للزائر كأحد رموز الضيافة الجزرية المميزة.
وتذخر بها الموائد في مناسبات معينة كالأعياد وظهور نتائج المدارس ومواسم الزواج وأيام الحج، وحتى في التعازي، حيث تقدم عن روح المتوفى.
كما أن “الكليجة” تتمتع بقابلية التخزين والبقاء في أي ظروف، دون أن تتغير أو تتأثر مكوناتها وعناصرها.
ويمتاز هذا القرص الجميل بأنه وجبة غذائية متكاملة ذات سعرات حرارية عالية، ولهذا يزداد الطلب عليها غالباً في الشتاء، مثلما كانت وجبة المحاربين في الطوارئ والغزوات، وزاد المسافرين والحجاج، مثلما هي طعام الكادحين وهدايا الموسرين والملوك.
“حوايج الكليجة”
وعن مكونات “الكليجة” يذكر كليب: يضاف لكل كيلو طحين في “الكليجة” الجزراوية 600 غرام زبدة أو سمنة، و 4 كاسات سكر الذي يمكن أن يستبدل بالسكرين لمرضى السكري بنفس الكمية، إلى جانب توابل “الكليجة” المعروفة والمكونة من القرفة والزنجبيل والهيل وحبة البركة والمحلب والشمرا، وهي تباع جاهزة في البقاليات ومحلات السمانة باسم بهارات الكليجة وتسمى أيضاً (الحوايج)، و 100 غ خميرة، و 4 كاسات ماء فاتر وربع كاسة من الزيت. حيث تُمزج جميع هذه المكونات باستثناء الزيت في وعاء عميق وواسع، وتُعجن حتى تصبح العجينة لينة، وعندئذ يُضاف الزيت، ويُغطى العجين ويترك حتى يختمر، ثم يُقطع ويُشرع بصنع “الكليجة” حسب القالب الذي نريده، كعكات أو أقراص أو قطع مستطيلة أو جدولات الخ، ويمكن أن تُحشى الكليجة بالتمر أو لا تُحشى، وتُترك لفترة في الصينية حتى تستريح وتخمر أكثر، وبعد أن يُدهن وجهها العلوي بصفار البيض تُخبز في فرن على درجة حرارة 225 مئوية، ثم تُترك حتى تبرد وتقدم مع الشاي.
مكون تراثي عريق
ويختم الباحث كليب حديثه عن “الكليجة” بالتأكيد على أن “كليجة” الحسكة أو “الكليجة” الجزرية أو الجزراوية، هي بلا شك جزء من خصوصيات المنطقة، وأحد المكونات الأساسية في تراثها وإرثها العريق.
وأهل المنطقة يفخرون ويعتزون عندما تُقرن “الكليجة” باسم منطقتهم وأحياناً باسم الوطن فيقال “كليجة” جزراوية أو “كليجة” سورية.