الحرية – حنان علي:
لعل محمود درويش حين وصف القهوة بأنها أنثى وحيدة، ما أنبأه فنجانها بأنها عاشقة صامتة اكتوتْ وطُحنت مرّات قبل أن تفوح بأريج هيلها بين الأرجاء، إنها حالما استقرتْ في قعره، سكنت وارتسمت ظلال لوحة معتمة مبهمة الملامح مثيرة التوق لقراءة المصائر المتعبة.
“القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة البني
القهوة تأمّلٌ وتغلغل في النفس وفي الذكريات،
القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني
القهوةُ أنثى وحيدة”.
تجاوزت القهوة حدود الفنجان، لتصبح رمزًا لتنقية الذهن للتأمل والتفكير خاصة (السادة) التي يتهمونها من باب الدعابة بأنها قهوة المثقفين، المرافقة للحظات الانعزال و أمسيات الحوار والإبداع.
• رحلة القهوة طويلة تستهل فصلها الأول من أرض إثيوبيا مع أغنام تزيد حيويتها من عنقود أحمر متدل من شجرةٍ غريبة
العبقُ بداية الرحلة
على مر العصور، لم تكن القهوة مجرد مشروب عادي يُرتشف في لحظة استرخاء أو انتعاش، بل كانت حافزًا لخلق مجتمعات، وتبادلٍ للثقافات، ومصدرًا للتنمية الاقتصادية. إنها رحلة طويلة ومتجددة يبدأ فصلها الأول في أرض إثيوبيا، حيث يُقال إن راعي غنم بسيطاً لاحظ أن أغنامه تنشط وتزيد حيويتها عندما تتناول عنقودًا أحمر متدليًا من شجرةٍ غريبة. أدرك الرجل أن شيئًا ما يخص تلك الثمرة يثير نشاطاً غير معتاد في قطيعه، فسارع إلى إبلاغ راهب دير قريته، الذي اعتبرها “صنيع الشيطان”، وألقى بالحبات مباشرة إلى النار، محملاً إياها شرورًا وفتنة.
لكن الزمن ما لبث أن أعاد ترتيب الصفوف، وعبثًا حاولت النار قتل الرغبة داخل الحبات، إذ ما إن انتشرت رائحة زكية وعبق فريد سارعت بالراهب لإعادة الحبات إلى الوعاء، صبّ فوقها الماء المغلي بحذر ثم تذوق الحاضرون المزيج. شعَروا بفتنةٍ مغايرة، بنشاطٍ دافئ ينساب سريعًا في عروقهم ويُنعش أفكارهم، فكانت تلك بداية الانتشار للمشروب العجيب بين الرهبان، لتمتد بعدها إلى أرجاء العالم، فتؤسس لثقافة من التفاعل والتحول.
يقول نزار قباني
اشْرَبي القَهْوَةَ يا سيّدتي.
فالجميلاتُ قضاءٌ وقَدَرْ.
والعيونُ الخُضْرُ والسُودُ..
قضاءٌ وقَدَرٌ..
• اتفق العديد من المؤرخين أن الشيخ اليمني علي بن عمر الشاذلي كان أول من اكتشف القهوة
اليمن.. مهد القهوة
الفضل في تقديم القهوة إلى العالم ينسب إلى اليمن، حيث يُعزى اكتشاف هذا المشروب المحبوب إلى عالم الدين اليمني علي بن عمر الشاذلي، واتفق العديد من المؤرخين أن الشاذلي كان أول من اكتشف القهوة، رغم أن الترجمات السابقة لأعماله لم تذكر شيئاً عن هذا المشروب. لكن كتاب عبد الرحمن بن محمد العيدروس “إيناس الصفوة في أنفاس القهوة” يُعتبر نقطة محورية في تعميق معرفتنا بمساهمته في اكتشاف القهوة.
وفي القرن الخامس عشر زرعت حبات البن لأول مرة في اليمن، لتمسي مدينة المخا الساحلية مركزاً لتجارة البن، والمصدّر الرئيس لشبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى الإمبراطورية العثمانية.
التجار اليمنيون لعبوا دوراً مهماً في انتشار القهوة في جميع أنحاء العالم عبر إنشاء مقاهٍ في مدن مكة، القاهرة، إسطنبول، ودمشق، والتي أصبحت مراكز اجتماعية للمحادثة والموسيقى والتبادل الفكري.
• أُدرجت القهوة العربية في قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو اعترافاً بقيمتها الثقافية وتاريخها العريق
الوصول إلى أوروبا
طرقت القهوة أبواب أوروبا، مع افتتاح أول مقهى في البندقية عام 1645، لتكتسب القهوة شعبية كبيرة، دفعت إلى إنشاء المقاهي في المدن الكبرى مثل لندن وباريس وفيينا، كمراكز للخطاب السياسي والاجتماعي.
ومع حلول (القرن الثامن عشر) بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية بزراعة القهوة في مستعمراتها، وإنشاء مزارع البن في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية وجنوب شرق آسيا، وفي القرون اللاحقة جلبت الثورة الصناعية تقدماً في إنتاج القهوة وتنوعت بعدها طرق التخمير، تلاه اختراع القهوة الفورية، ماجعل تحضير القهوة أكثر سهولة بعدما بات استهلاكها طقساً يومياً للعديد من العمال، مثل الإسبريسو، الكابتشينو، والقهوة العربية.
• أسماء القهوة العربية تنوعت بين البن والشاذلية والكيف و مرّ الطبخة والبرية
محطة في الهند
في الهند يُعتبر بابا بودان شخصية محورية في تاريخ زراعة القهوة في الهند، ووفقاً للأسطورة، يُنسب إليه دور كبير في إدخال حبوب القهوة إلى البلاد حيث جهد بزراعتها في تلال شيكماغالور، كما ساهم الفرنسيون في نشر زراعة القهوة في أمريكا الوسطى والجنوبية، إذ يُزعم أن غابرييل دي كليو، ضابط في البحرية الفرنسية، قام عام 1723بتهريب شتلة بن من حديقة باريس النباتية إلى جزيرة مارتينيك، وتعتبر هذه الشتلة أصل ملايين أشجار البن في المنطقة.
ويختلف إعداد القهوة في العديد من البلدان بما في ذلك كيفية تحميص القهوة والتوابل والنكهات المضافة وأبرزها الهيل والزعفران والقرنفل.
القهوة العربية
تاريخُ القهوة في المملكة العربية السعودية يروي حكاية طويلة ومتشعبة، تتفاوت فيها الروايات حول ظهورها لأول مرة، بعضهم يقول إنها انتقلت من اليمن إلى مكة، ثم انتشرت في باقي المناطق، بينما يعتقد آخرون أن التجارَ الأتراك هم من جلبوها إلى الأراضي السعودية، عبر أسواق جدة، ومن هناك بدأت رحلتها لتصبّ في تاريخ وثقافة البلاد.
أما في مصر، فقد حمل الطلاب اليمنيون معهم القهوة عند قدومهم للدراسة في الأزهر، فانتشرت بين صفحات المجتمع المصري، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية. وفي عام 2015، أُدرجت القهوة العربية في قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو، اعترافاً بقيمتها الثقافية وتاريخها العريق، فهي أكثر من مشروب، إنها ذاكرةُ أمةٍ ومصدرُ فخرٍ يُربط بين الأجيال.
أما أسماؤها فتنوعت، فـ”البن” هو الغالب، والذي يُشير إلى المادة الأساسية، وهناك “الشاذلية” نسبة لأول من تذوقها، أو نوعٍ من البن اليمني الأصيل، بينما يطلق عليها البعض “الكيف”، لأنها تجلب الارتياح، و”المر”، لأنها بطبيعتها مرّة بعض الشيء، كما توجد أسماء أخرى مثل “الطبخة” لأنها تُطبخ على نار هادئة، و”البرية” نسبةً للبن اليمني البري.
وفيما يخص أنواعها، فهي متعددة ومتنوعة، تختلف من مكان لآخر، لكنّ جميعها تتفق على أن القهوة ليست مجرد مشروب، بل حياة نابضة، وعادة ما تُربط بالمناسبات، وتُعبر عن الكرم والضيافة، وتجسد في ذاتها أصالة تاريخية عميقة.
ونورد ما قاله أبو تمام
وَقَهوَةٍ كَوكَبُها يَزهَرُ
يَسطَعُ مِنها المِسكُ وَالعَنبَرُ
وَردِيَّةٌ يَحتَثُّها شادِنٌ
كَأَنَّها مِن خَدِّهِ تُعصَرُ
مازالَ قَلبي مُذ تَعَلَّقتُهُ
أَعمى مِنَ الهِجرانِ ما يُبصِرُ
التنجيم بالقهوة
التنجيم المعروف باسم “قراءة الفنجان”، فن قديم يعود تاريخه إلى قرون سالفة، حيث تستخدم بقايا القهوة المتبقية في الفنجان لتفسير الرموز ومحاولة التنبؤ بالمستقبل. يُعتبر هذا الفن جزءًا من التقاليد الثقافية في العديد من البلدان، خاصة في الشرق الأوسط وبلدان البحر الأبيض المتوسط، ولا تغيب عن ذهني الدهشة وضحكات الأمهات الصباحية أثناء قراءة الفنجان، ولا أدري كيف كنّ يرين الحبّ أوالمال، أو التحديات أو التنبؤات أو إحدى الخيانات !
ونرتشف بقايا قهوتنا مع أبي نواس:
يا خاطبَ القهوة الصّهباءِ، يا مَهُرها بالرّطلِ
يأخذ منها مِلأَه ذهبا قصّرْتَ بالرّاح
فاحْذَرْ أن تُسمِّعها
فيحلِفَ الكرْمُ أن لا يحملَ العنبَ..