الحرية- جواد ديوب:
يقال إن لكل إنسان من اسمه نصيباً! كما لو أن هناك حبلاً سريّاً يصِلُ الاسمَ بصاحبه، بذكرياته، بطريقة كلامه وقول أفكاره، بمشاعره تجاه نفسه، ومشاعرنا تجاهه، وقد لُقِّبَ الكثيرُ من شعراء العرب بألقاب منها الجميل ومنها الغريب، وصارت تلتصق بصاحبها فتغدو هي هو، وهو هي.
يروي أبو فرج الأصفهاني في “الأغاني” أن الشاعر (تأبطّ شراً) اسمُه الحقيقي ثابت بن جابر، ولكن لقبه “تأبّطَ شرّاً” التصق به ولزِمه حتى بعد مماته، لأن أمّه طلبت إليه أن يأتيها بهدية كما يفعل أخوتُه، فأتاها ذات يوم بجِرابٍ متأبطاً به (تحت إبطه)، وألقاهُ بين يديها وفتحه، فخرجت منه أفاعٍ تسعى، فوثبتِ الأمُ وخرجت من البيت، فسألتها نساءُ الحي: بماذا أتاكِ ثابتٌ؟ فقالت: لقد تأبطّ شرّاً…إنها أفاعٍ في جِراب!
ولذلك حين التقى (تأبطَ شرّاً) برجلٍ دميمٍ ضئيل من بني ثقيف يقال له (أبو وهب)، سأله الأخيرُ: بما تغلِبُ أعداءَكَ؟ قال: باسمي، إنما أقولُه لهم فتنخلعُ قلوبُهم، فسأله الثقيفيّ: هل تبيعني اسمَك؟ فأجابه ساخراً بقصيدة قال فيها:
ألا هل أتى الحسناءَ أنّ حليلَها تأبّطَ شراً واكتنيتُ أبا وَهَبِ
فهَبْهُ تَسمّى اسميَ وسمّاني اسمَه فأينَ له صبري على معظمِ الخَطْبِ
وأينَ له بأسٌ كبأسي وثورتي وأينَ له في كل فادحةٍ قلبي.
تقاليد الشعوب!
بعض الشعوب، ومنها شعوب منطقتنا، لديها معتقدات بأن بعض الأسماء لا تناسب الطفل المولود لأن طاقة الاسم السلبية مدمّرة لجسد وروح أطفالهم وتسبب أمراضاً دائمة لهم، ما يجبر الأهل على تغييره كنوع من تحايل على القدر أو على الخط المرسوم لابنهم أو لابنتهم منذ كانوا روحاً معلّقة على شجرة أرواح الخالق.
ومن المفهوم بالطبع إطلاق الأسماء على البشر، لكن بعض الناس يطلقونها على الأحصنة العربية ذات الأنساب الأصيلة، بل حتى على القطط والكلاب في محاولة لأنسنتها وكأن تسميتها تجعلها تفهم مشاعرنا وأفكارنا، أو أن تنقل لنا أحاسيس ألمها حزنها وفرحها، ربما لأنها كما جاء في القرآن الكريم “أممٌ أمثالكم”، أو كما يقول البوذيون تحولت إلى ما هي عليه من كائنات حية في هذه الدورة الجديدة من حياتها التي هي فيوضاتٌ تنبعُ من الفيض الأول أو الروح الأولى.
ماكوندو الخرافية!
في رواية “مئة عام من العزلة” للروائي غابرييل غارسيا ماركيز يروي لنا كيف أن الأم الكبيرة أورسولا في قرية (ماكوندو) كان لديها “قلقٌ من أن التكرار اللجوج للأسماء في تاريخ العائلة ينذر بما هو أسوأ من الفرح بولادتهم، فمن كانوا يُدعون بـ(أوريليانو) منغلقين على أنفسهم، ثاقبي الفكر، ومن كانوا يُدعون خوسيه أركاديو كانوا نزقين جسورين، لكنهم موسومون بسمةٍ مأساوية.”
ولأن كل العالم في تلك القرية هو عالمٌ من دلالات خرافية، عالمٌ يتفلّت منهم كتسرّب الذاكرة، عالمٌ أصيبَ بداء الأرق العجيب الذي أنساهم معاني الأسماء والأشياء من حولهم، فقد بدؤوا يسجّلون بالحبر أسماءَ كل شيء ويلصقونه عليه: طاولة، كرسي، ساعة، بقرة، دجاجة، تيس…إلخ لكن مع احتمالات النسيان المتزايدة بازدياد الأرق وعدم النوم، أصبحوا يدوّنون بطاقاتٍ توضيحية يعلقونها حول أعناق الحيوانات لحفظ المشاعر والأفكار المتعلقة بهذا الشيء أو ذاك: “هذه بقرة، البقرة يجب حلبها كل صباح كي تعطي حليباً، ويجب غلي الحليب من أجل مزجه مع القهوة…”
“اسمي أحمر”!
بينما جعلَ الروائي أورهان باموق حتى الحيوانات والجمادات تنطق في روايته المذهلة “اسمي أحمر”، بحيلةٍ روائيةٍ ساحرة (حيلةٌ مقتبسة ربما من سلفه الروائي العظيم سرفانتس في قصته “حديثُ كلبين”) جعلها باموق تروي لنا الحياة من منظورها، كما لو أنها تتألم وتحزن وتغضب وتصرخ، بل تتحدث عنّا نحن البشر وعن شفقتها علينا أو كرهها لنا وبؤس حياتها معنا.
إذ تشكلت كل مقاطع الرواية من عناوين على شكل: اسمي شكّورة، اسمي فراشة، اسمي قاتل، اسمي نقود، اسمي كلب، اسمي أحمر، …إلخ ، وصرنا أمام عوالم بقدر ما هي خرافية؛ بقدر ما تجعلنا نعيد التفكير كما لو كنا نحن هي تلك الأشياء.
في مهب الزمن!
وأحسبُ أن تذكّر الأشخاص بغير أسمائهم الحقيقية بل بأسماءَ أقربَ إلى ما نحسّه في عيونهم، في موسيقا أصواتهم، أو بحسب ما يتركه حضورهم علينا من هزّةٍ جميلة في المشاعر، أو من تخلخلٍ في كيمياء التواصل معهم … هذه الطريقة الطريفة في تذكر أسماء الناس، ربما هي حيلةٌ جميلةٌ من إبداعات الإنسان في محاولةٍ لخلقِ نوعٍ من الألفة مع من هم عابرون في حياتنا، أو ليقول للآخرين: لا يهمني من تكونون، لا تهمني أسماؤكم ولا من أي دينٍ أنتم…أحترمكم كبشر مثلي، لكم عيونكم التي تبكي، وشفاهكم التي تضحك وقلوبكم التي تختزن آلامكم وأفراحكم، وعقولكم التي تدرك أننا معاً؛ مجرد قشة في مهب الزمن.