الحرية – نهى علي:
استثمار الميزات لم يعد خياراً ترفيهياً..بل اتجاهٌ إستراتيجيٌّ لازمٌ، في زمن البحث السوري الجادّ المفترض لإعادة إحياء الموارد المعطلة، وهذا بالتحديد يندرج في سياق الإدارة المثلى والاستثمار الحقيقي للموارد، وسورية بلد ثري بالموارد بكل معنى الكلمة..
مؤخراً بدأت تتركز الأنظار على فكرة تحويل الساحل السوري إلى منطقة حرة متكاملة، على غرار الكثير من النماذج العربية والعالمية..فما هي بالفعل الإمكانات والخطوات و الجدوى الاقتصادية من هذا المشروع الحيوي بكل معنى الكلمة كما يجمع الخبراء وأصحاب الاختصاص..؟
* د. سعيد: الساحل السوري ينطوي على إمكانات هائلة تمكن من تحويله إلى منطقة حرّة متكاملة تكون بوابة لإعادة تموضع سوريا على الخريطة العالمية
إمكانات هائلة
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور المهندس محمد سعيد وهو الأستاذ في أكاديمية ماكاروف البحرية في سان بطرسبورغ، أن الساحل السوري ينطوي على إمكانات هائلة تمكن من تحويله إلى منطقة حرة متكاملة على غرار ميناء جبل علي في الإمارات، حيث يمتلك شريطاً ساحلياً يزيد على 180 كيلومتراً مع ميناءين تجاريين رئيسيين في طرطوس واللاذقية.
ويشجع د. سعيد على هذه الفكرة الإستراتيجية، التي يمكن أن تكون بوابة لإعادة تموضع سوريا في الخريطة الاقتصادية العالمية..إلّا أنه يشير إلى أنها تتطلب تخطيطاً مكثفاً وتنفيذاً مرحلياً.
* الموانئ الحالية تشكل أساساً يمكن البناء عليه ولاسيما مع اتفاقيات التطوير الجديدة
موقع إستراتيجي
يعتد الخبير د. سعيد بجملة محفزات من شأنها تعزيز الجدوى من إحداث مشروع منطقة حرة متكاملة في الساحل السوري، ويرى أن الموقع الجغرافي الإستراتيجي يتصدّر مشهد البحث أمام من يرغب بدراسة مثل هذا المشروع، إذ يقع الساحل السوري على شرق البحر المتوسط، وعلى مقربة من الممرات التجارية البحرية الدولية، من قناة السويس إلى البحر الأحمر وأفريقيا وجنوب شرق آسيا والصين، ومن بحر إيجة إلى دول البحر الأسود، ما يجعله نقطة وصل بين القارات الثلاث أوربا وآسيا وأفريقيا. حيث يمكن للموانئ السورية أن تجمع بين الموقع الإستراتيجي المتقدم، والبنية التحتية المتطورة، والتشريعات المرنة التي تجذب الاستثمارات العالمية.
* مطلوب إصلاح تشريعي لإطلاق مشروع المنطقة الحرة والسماح بتملك الأجانب و تحويل الأرباح من دون قيود
بنية تحتية مؤهلة
البنية التحتية القائمة في المنطقة الساحلية إحدى الركائز المهمة التي يمكن الركون إليها في النظر إلى مثل هذه الفكرة الإستراتيجية وتطبيقاتها.. فالدكتور سعيد يرى أنّ الموانئ الحالية تشكل أساساً يمكن البناء عليه، خاصة مع استثمارات حديثة مثل اتفاقية تطوير ميناء اللاذقية مع شركة CMA CGM الفرنسية بقيمة 230 مليون يورو.
هذا إلى جانب توفر مساحات كبيرة في المنطقة الساحلية مؤهلة لتصبح نواة استثمارية متكاملة.
خريطة إنجاز متأنية
بعد ماسبق من محفزات يمسي من المهم الدخول إلى الخطوات التطبيقية باتجاه تحقيق هذا المشروع الذي يتكفل بمحاكاة سورية لتجارب إقليمية ناصعة..
* توسيع الموانئ وتحديث الأرصفة وإنشاء مرافئ برية وتطوير شبكات الخطوط الحديدية
وفي هذا السياق يرى د. سعيد أنه لابدّ من الانطلاق من إستراتيجية مدروسة في سياق التوجه نحو الاقتصاد الحر.. ثم التخطيط المتكامل، الذي يعني وضع رؤية شاملة لربط الموانئ السورية بالمناطق الصناعية الداخلية مثل عدرا في دمشق و حسياء في حمص عبر شبكة نقل متعددة الوسائط.
متطلبات
لكن الخبير الاقتصادي يرى أن ثمة مكملات- بل أساسيات- لابدّ منها لإنجاح الفكرة و تطبيقها كمشروع ..وأول هذه الأساسيات هو الإصلاح التشريعي والقانوني.
*عائدات مجزية من زيادة الطاقة الاستيعابية للمرافئ وتنمية التجارة الإقليمية وتنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على المساعدات الخارجية
ويرى أنه لا بدّ من تبني تشريعات جاذبة للاستثمار تشمل الإعفاءات الضريبية والجمركية على الصادرات والواردات داخل المنطقة الحرة، مع وجود ضمانات قانونية دولية كما في اتفاقية ميناء اللاذقية التي تنص على التحكيم عبر غرفة التجارة الدولية.
هذا إلى جانب حرية تحويل الأرباح ورأس المال من دون قيود.
و السماح للأجانب بالملكية الكاملة للشركات من دون الحاجة إلى شريك محلي.
و تبسيط إجراءات تسجيل الشركات وتسريع إصدار التراخيص في المنطقة الحرة، (مثل الرخص الصناعية والتجارية والخدمية).
ثم توفير بيئة تنظيمية مستقلة عن القوانين المحلية، ما يسهل عمليات الاستيراد والتصدير.
و إصدار قوانين لتسهيل وتسريع إجراءات إصدار تأشيرات الإقامة الطويلة للمستثمرين وعائلاتهم.
البنية التحتية
يركز الدكتور سعيد على مسألة تطوير البنية التحتية، و تشمل توسيع المرافئ الحالية وإنشاء مرافئ ومناطق حرة جديدة.
وتحديث أرصفة استقبال السفن وزيادة عددها و أعماقها إلى 15-16 متراً لتمكينها من استقبال السفن العملاقة، وتحديث معدات وتجهيزات المرافئ، (يتألف ميناء جبل علي من 23 رصيفاً مجهزة بـ 78 رافعة قادرة على استيعاب أكبر سفن نقل الحاويات).
ثم إنشاء مرافئ برية عند المعابر الحدودية لربط الساحل بالداخل السوري.
و تطوير شبكات السكك الحديدية والطرق البرية، وربط كافة المحافظات السورية بالمرافئ البحرية.
وربط سورية بدول الجوار بواسطة شبكة من الخطوط الحديدية، وربط الخليج العربي عبر العراق بالساحل السوري.
* الجدوى الاقتصادية واضحة في ظل الحاجة لتنشيط الاقتصاد السوري وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي
و من أجل ضمان جذب الاستثمارات إلى المنطقة الحرة المفترضة.. يرى الدكتور سعيد أنه لابدّ من بلورة بعض الإجراءات والقواعد المرنة..
كاعتماد الآلية التصاعدية لتوزيع الأرباح كما في اتفاقية اللاذقية.
وتشجيع الاستثمارات الخاصة مع الحفاظ على السيادة الوطنية.
وفي سياق الرؤية التنفيذية يسترسل د. سعيد في سرد أولويات ما يجب .. و يرى ضرورة الربط بين الموانئ السورية والموانئ العالمية بأكبر عدد ممكن من خطوط الشحن البحرية.
كما أنه من المهم استخدام الأنظمة الآلية الحديثة والذكاء الاصطناعي في إدارة الموانئ، مثل مشاريع BOXBAY” ” للتخزين الآلي.
و إنشاء مرافق تخزين مبردة بمساحات كبيرة لتخزين المنتجات سريعة التلف، مع الاهتمام بالتنوع الاقتصادي، و تطبيق معايير صارمة لإدارة النفايات وتقليل الانبعاثات… وإنشاء مطارات جديدة في الساحل السوري.. وإنشاء شبكة من الفنادق الحديثة لاستيعاب المستثمرين والوافدين للعمل في هذا القطاع.
كما أنه من الضروري منح الاستقلالية الإدارية للمنطقة الحرة لتسريع اتخاذ القرارات بعيداً عن البيروقراطية المركزية.
فرصة تنموية
يمكن للمنطقة الحرة -برأي محدثنا- أن تكون محركاً للتنمية في المحافظات الساحلية وفي سوريا والمنطقة عموماً، ولاسيما مع غياب المناطق الصناعية الكبرى، وذلك من خلال خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لكافة الاختصاصات.، وجذب التكنولوجيا الحديثة ورفع كفاءة القوى العاملة، و تنشيط قطاعات النقل والخدمات اللوجستية.
عائدات
يشير د. سعيد إلى عائدات مجزية متوقعة للمشروع، منها زيادة الطاقة الاستيعابية للموانئ من 500 ألف حاوية إلى 3 ملايين حاوية سنوياً، وتنمية التجارة الإقليمية والدولية عبر تحسين القدرة التنافسية، ثم تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على المساعدات الخارجية.
معوقات
لاشيء في هذا العالم يُنجز بشكل يسير وسهل كما يقال..إذ يرى الخبير سعيد أنّ ثمة معوقات للمشروع مثل، غياب المناطق الصناعية، ويمكن تعويض ذلك بإنشاء مناطق صناعية جديدة متخصصة مرتبطة بالمنطقة الحرة.
كذلك ثمة حاجة إلى الاستثمارات الداخلية والخارجية، وهذه تتطلب شراكات إستراتيجية مع شركات عالمية كما في شركة موانئ دبي.
ومن نافلة القول إنّ تطبيق الفكرة يحتاج إلى تعزيز الإجراءات الأمنية وضمان الاستقرار.
توقعات
النتائج المتوقعة بالنسبة للاقتصاد لتحويل الساحل السوري إلى منطقة اقتصادية حرة، على غرار ميناء جبل علي، تبدو كبيرة وإستراتيجية بأبعادها كلها..
أبرزها برأي د. سعيد.. تشكيل مركز لوجستي اقتصادي عالمي..و مساهمة كبيرة في الناتج المحلي، وخلق آلاف فرص العمل الجديدة.
ثم جذب الاستثمارات الأجنبية..وكما ذكرنا سابقاً.. تنويع الاقتصاد.
مقاربة مشجعة
وبما أن المقارنة مع منطقة “جبل علي”.. يذكر د. سعيد أن الإيرادات السنوية لمجموعة “موانئ دبي العالمية” التي تشمل على ميناء جبل علي (الانترنت ومصادر أخرى)
• يُقدر حجم التجارة التي تمر عبر ميناء جبل علي بـحوالي 150 مليار دولار.
• بلغت مساهمة الميناء والمنطقة الحرة في جبل علي بنحو 11% من اقتصاد الإمارات.
• بلغت إيرادات المجموعة في عام 2024 نحو 20 مليار دولار.
• يؤمن الميناء 47% من الواردات و64% من الصادرات في دبي.
على العموم يجزم د. سعيد أنّ تحويل الساحل السوري إلى منطقة حرة متكاملة ليس حلماً مستحيلاً، بل هو مشروع قابل للتحقيق بخطوات منهجية. النجاح اعتماد إستراتيجية تستند على التخطيط الواقعي، البيئة التشريعية الجاذبة، والشراكات الإستراتيجية.
رغم التحديات، فإن الجدوى الاقتصادية واضحة، خاصة في ظل الحاجة الملحة لتنشيط الاقتصاد السوري وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي. كما قال د. ريا: “آن لهذا الساحل أن يتنفس، وللاقتصاد السوري أن يمتلك أجنحة جديدة.