الحرية – نهلة أبو تك:
يفقد شاطئ الشقيفات، الممتد على نحو 20 كيلومتراً بين مدينتي جبلة واللاذقية، تدريجيًا مكانته كموقع طبيعي فريد لتكاثر السلاحف البحرية، مع تصاعد التعديات وغياب الحماية الرسمية، فالرمال الذهبية التي احتضنت يومًا عشرات أعشاش السلاحف الخضراء (Chelonia mydas) وضخمة الرأس (Caretta caretta)، باتت تُجرف وتُردم، في وقت تحاول فيه هذه الكائنات البحرية المهددة الحفاظ على دورة حياتها في بيئة تزداد قسوة.
ورغم تصنيفه سابقًا كأحد أهم مواقع تعشيش السلاحف في شرق المتوسط، لم يُدرج الشقيفات حتى اليوم ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، واكتفى بتوصيف “موئل بحري مهم” في بعض الدراسات الإقليمية، ما جعله مكشوفًا أمام أطماع الاستثمار العشوائي وغياب الضوابط البيئية.
رئيس الجمعية السورية للبيئة: التعامل معها يتم كما لو كانت مجرد سلعة إنشائية لا عنصراً أساسياً في ديمومة الحياة البحرية
يهدد التوازن البيئي
توثّق دراسات علمية بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي – وجود أكثر من نصف أعشاش السلاحف المسجلة في سوريا على شاطئ الشقيفات، ما يعكس أهميته البيئية الفائقة. لكن هذا التوازن، وفق ما يوضح الأستاذ الدكتور أديب سعد، الباحث في علوم البحار ورئيس الجمعية السورية للبيئة، بدأ يتزعزع نتيجة “الأنشطة البشرية الجائرة، وعمليات القلع والنقل المستمرة التي تدمّر الموئل الطبيعي لهذه السلاحف وتعرّض بيوضها للتلف”.
ويشير سعد إلى أن الشاطئ يتميز برماله السوداء الغنية بمعدن الكوارتز، وهي رمال ذات خصائص فريدة تسمح للسلاحف بالتكاثر، إلا أن التعامل معها اليوم يتم “كما لو كانت مجرد سلعة إنشائية، لا عنصرًا أساسياً في ديمومة الحياة البحرية”.
الصيد العشوائي والتلوث
لا تقتصر التهديدات كما يبيّن الدكتور سعد على جرف الرمال، بل تشمل استخدام الديناميت في الصيد، واصطدام السلاحف بالشباك، والعبث بأعشاشها، إضافة إلى التلوث الناتج عن البلاستيك ومياه الصرف الصحي التي تُصرّف مباشرة في البحر. ويقول: “غالبًا ما تُحتجز السلاحف في الشباك وتتعرض للأذى أو النفوق، ويقوم بعض الصيادين بالتخلص منها لاعتبارها عبئًا”.
ويتابع: إن عدد الأعشاش المسجلة في الشقيفات انخفض بشكل مقلق من 200 عش عام 2018 إلى أقل من عشرة أعشاش فقط بحلول عام 2020، بفعل الاعتداءات المتكررة، بعضها يتم باستخدام جرافات ثقيلة في وضح النهار، دون أي رادع.
دورة الحياة مهددة
تعود السلاحف البحرية إلى الشاطئ ذاته الذي فقست فيه لتضع بيضها، ضمن دورة حياة متكررة كل سنتين إلى أربع سنوات. لكنّ هذا النمط الطبيعي مهدد بالانقطاع. ويشرح سعد أن الرمال التي تختارها السلاحف بعناية “ليست فقط مأوى للبيض، بل ركيزة بيئية تتطلب خصائص محددة لحضن البيوض، وهذا ما يتم تجاهله تمامًا اليوم”.
حاجة للتوعية
يشدد الدكتور سعد على أن العلاقة بين الصيادين والسلاحف لا يجب أن تكون صدامية، بل تكاملية، فالسلاحف، وفق ما يقول، لا تنافس الصياد على رزقه، بل تساعد في الحفاظ على توازن البيئة البحرية، داعيًا إلى “برامج توعية فعالة للصيادين حول كيفية التعامل السليم مع هذه الكائنات”.
فرص مهدورة
ورغم مطالبات بيئية متكررة بضرورة إعلان الشقيفات محمية بحرية، لا يزال هذا المطلب معلقًا، بلا قرار رسمي. ويؤكد الناشط البيئي شادي مهنا أن “الشقيفات تمثل فرصة حقيقية لحماية ما تبقى من التنوع الحيوي في الساحل السوري، خاصة أنها من المناطق القليلة التي لم تُشوَّه بالكامل”. ويضيف: “إدراجها ضمن منظومة حماية حقيقية بات ضرورة بيئية عاجلة، لا مجرد رفاه فكري”.
أمل قائم على التنظيم
من منظور اقتصادي، يرى خبراء أن تحويل الشقيفات إلى وجهة للسياحة البيئية يمكن أن يحقق فائدة مزدوجة، بيئية وتنموية، خصوصًا مع تزايد اهتمام السياح حول العالم بالمواقع الطبيعية النادرة. وتؤكد المهندسة لبنى درويش، خبيرة في السياحة البيئية، أن “المنطقة تملك مؤهلات طبيعية تجعل منها نقطة جذب فريدة، إذا ما تم تنظيمها ببنية تحتية مستدامة تُراعي التوازن البيئي وتوفر فرص عمل محلية”.
هل تفقد الشقيفات ذاكرتها البيئية؟
في المحصلة، يقف شاطئ الشقيفات على مفترق مصيري، فإما أن يلقى الاستجابة التي تحفظ دوره الطبيعي والبيئي، أو يُترك لمصيره تحت وطأة التعديات المستمرة. فالسلاحف التي تعود بعناد لتضع بيضها في ذات الرمال، قد لا تجد قريبًا مكانًا آمناً. أما الرمال، التي تحمل ذاكرة بحرية نادرة، فتُسرق أمام أعين الجميع لصالح مشاريع لا تعرف الفرق بين رملٍ يُنجب الحياة، وآخرٍ يُخلط بالإسمنت.