الحرية – لبنى شاكر:
“وأزهر الياسمين”؛ عنوانٌ اختاره الفنان وفيق بوشي لمعرضه الفردي الثاني، المُقام حالياً في صالة الشعب في دمشق، يُوجز فيه رؤيته لانتصار الثورة السورية، بعودة المُهجرين إلى أهلهم، وعلى حد تعبيره فبيوت السوريين عاشت مآسيَ لا حصر لها، مع استشهاد أبنائهم واعتقالهم وتغريبهم، عدا عن المفقودين والمُصابين ومن خسرناهم في البحار والغابات باحثين عن حياةٍ كريمة، ومن ثم كانت عودة أعدادٍ منهم، بمنزلة نجاةٍ للأرواح المُثقلة، وهو واحدٌ ممن هُجّر أبناؤهم، حتى أن أحفاده ولدوا خارج سوريا، فلم يعرفهم إلا عبر شاشة الموبايل، لكن رجوعهم كما يقول أزهر بيته وروحه، تماماً كحال البلاد التي اطمأنت أرواح ساكنيها أخيراً.
سلمٌ يبدأ بالواقعية
يهتم بوشي برسم الحارات الدمشقية القديمة والبورتريهات والمناظر الطبيعية، وهو ما اشتغل عليه في معرضه الحالي (42 لوحة)، ومع أن عدداً من الفنانين، يستسهل هذه المواضيع مقابل التجريد، بمعنىً آخر اللوحة غير المقروءة أو المفهومة من قبل العامة، لا يُعير مُدرِّس الفنون اهتماماً لهذه الفكرة، يقول: “التزامي بمواضيع مُحددة، ليس تقصيراً مني، إنما شغف بها، لستُ ضد التجريد أو غيره من المدارس والاتجاهات، لكني لا أُوافق على توجّه الفنانين الجدد وقليلي الخبرة إلى آخر خطوة في التشكيل، يجب أن يمر الفنان بمراحل، الفنُّ سلمٌ يبدأ بالواقعية، الرسم كأنّ العين كاميرا دليلٌ وأساس في الإتقان المطلوب”.
بيوت السوريين عاشت مآسيَ لا حصر لها، مع استشهاد أبنائهم واعتقالهم وتغريبهم
دمشق بعد التحرير
في رسوماته عن دمشق القديمة، يسعى لتحقيق شيءٍ من التوازن بين التوثيق ورؤيته الخاصة، يقول عنها: “في الحارات هناك أساسيات يجب الحفاظ عليها في اللوحة، كأشكال الأبواب التراثية، خشب النوافذ والشرفات، تشققات الجدران، لأن التغيير هنا يصبح تشويهاً، لكن يمكن اللعب على عناصر أخرى في العمل مثل التوازن والانسجام والترابط، بحيث يُمكن الاستغناء عن رسم سيارة ما في الحارة، أو استبدالها بمكوّنٍ آخر، يخدم اللوحة”.
يضيف لـ “الحرية”: “رسمت دمشق طيلة أربعين عاماً، لكنها بعد التحرير مختلفة، ربما كان هذا نابعاً من أفكاري ومشاعري، اليوم أرسم وأنا أدفع عن نفسي كابوساً حقيقياً، وفي داخلي أملٌ كبير”.
“اليوم أرسم وأنا أدفع عن نفسي كابوساً حقيقياً، وفي داخلي أملٌ كبير”
وجوهٌ غنية بالتفاصيل
أمّا في البورتريهات، يبحث بوشي عادة عن وجهٍ غني بالتفاصيل، قابل لـ”التشريح تحت الجلد”، وكما يشرح، لا يُشترط أن يكون هذا في وجوه كبار السن، في التجاعيد والانحناءات، إذ إن بعض الوجوه تدعوه لرسمها، بل تدفعه لمزيدٍ من العمل في اللوحة، وهو يستمتع في بذل جهدٍ كبير في عمله، في حين يُصادف أحياناً وجهاً جميلاً لكنه غير قابلٍ للرسم، هذا يرتبط برأيه بشخصيةٍ غامضة ومُتقلبة، ومع الخبرة أصبح أكثر قدرةً على الحكم والاختيار. وفي “أزهر الياسمين” رسم الفنان وجوه أحفاده الذين غيروا حياته ولونوا أيامه، وفي إحدى اللوحات جمع أبرز معالم دمشق مع وجه حفيده الذي يحمل اسمه.
توثيق للطبيعة المُتغيرة
يستعد بوشي للبدء بمشروع جديد، يُوثّق فيه لطبيعة مدينته قدسيا وما حولها من أراضي وادي بردى، يقول: “الهجمة العمرانية على قدسيا غيّرت طبيعتها، وساهمت في تدمير مساحات زراعية واسعة، وهو ما ينسحب على مناطق الهامة وجمرايا وجوارها، دون أن ننسى ما فعلته الحرب وأدواتها من صواريخ وبراميل، كل هذا عبث بالطبيعة وأساء لها، لهذا أريد رسم بيئتنا قبل أن نتفاجأ بتغير مكوناتها، وكما أفعل دائماً، التقطت صوراً لأراضي العراد والبجاع، وسأضع منشوراً على صفحتي في فيسبوك للأهل والمعارف ممن يمتلكون صوراً قديمة لطبيعة مناطقهم، لتزويدي بها، على أمل أن يُتاح لي تعريف الآخر بما وهبنا الله”.
يستعد بوشي للبدء بمشروع جديد، يُوثّق فيه لطبيعة مدينته قدسيا وما حولها من أراضي وادي بردى
أبعد من الشعارات
يدعو بوشي اتحاد الفنانين التشكيليين للقيام بدوره، وهنا يقول “سابقاً لم نكن نجرؤ على المطالبة والانتقاد والحديث عن التقصير لأننا كنا نخاف من بطش النظام وسجونه، لكن والحرية أصبحت بين يدينا لننتقد كل السلطات، ولنثبت لأنفسنا وللآخرين أن التحرير أبعد من الشعارات بكثير”، مُضيفاً “أفنيت حياتي في الفن، وقدّمت لبلدي ما أستطيع، وأنتظر كما غيري من الناس تقديراً ورعاية، ولا سيما الفنانون الذين يكبرون بالعمر”.
ودعا بوشي لدعم صالات العرض التابعة للاتحاد، والتي تنقطع فيها الكهرباء ساعاتٍ طويلة، كما حدث في افتتاح معرضه، إضافة لاقتناء لوحات الفنانين والترويج لمعارضهم، سواء كانوا مبتدئين أو أصحاب خبرة، حتى يشعر المتابع بحراك ثقافي وتشكيلي حقيقي، بعيداً عن الأسماء والوجوه المكررة.