الحرية – مها سلطان:
عندما يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه يعرف مسبقاً «الجواب» الروسي على مهلة الـ10 إلى 12 يوماً، فهذا يعني حكماً أن هذه المهلة بلا معنى، أي بلا نتائج متوقعة، فلا تقدم في المفاوضات مع أوكرانيا ولا تهدئة على مسار الحرب.. إذاً لماذا يُقدم ترامب على منح هذه المهلة، ولماذا أقدم على تقليصها بعدما كانت 50 يوماً؟
أبعد من ذلك.. هل إنه مع انتهاء هذه المهلة سيكون هناك تحول جوهري في تعامل إدارة ترامب مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين فيما يخص أوكرانيا، أم إنها مجرد «مهلة أخرى» ومناورة أخرى في سلسلة طويلة من «المواعيد النهائية المرنة» التي باتت سمة تطبع أسلوب ترامب التفاوضي، حيث لا يتم الالتزام بها في نهاية المطاف وبما يُبقي العالم بلا إجابات مفهومة أو منطقية لما يجري؟ (يستثنى هنا إيران ومهلة الشهرين التي أعقبتها حرب إسرائيلية شرسة ضد إيران استمرت 12 يوماً).
لكن مع روسيا الأمر يختلف عن إيران، حيث يرى ترامب أن بإمكانه التنصل من الالتزام بالمهل وما يترتب على ذلك من فقدان المصداقية، وهذا بالتأكيد يؤثر على تعامل روسيا مع هكذا مهل، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية يؤثر في حلفاء روسيا، خصوصاً روسيا (والهند بطبيعة الحال) إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الصين والهند معنيتان بالمهلة، فإذا ما قرر ترامب وضع مهلته لروسيا موضع التنفيذ فإننا سنشهد على الأقل في المرحلة الأولى توسيع دائرة العقوبات على روسيا، ومن نافل القول أن هذا يؤثر مباشرة على الصين وحربها التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، وربما كان ترامب يستهدف الصين أساساً، حيث إن مهلة الـ12 يوماً موجهة ضد الصين أكثر مما هي موجهة ضد روسيا.. وعليه فإن المعادلة كالتالي: الإنذار/المهلة/ لروسيا، و«الجواب» عند الصين.
وإذا كانت الحال كذلك فإن ترامب يعتبر نفسه «مناوراً» ناجحاً فيما يخص الصين و«الالتفاف المتاح» الذي توفره ظروف الصين نفسها، سواء بتحالفها مع روسيا أو فيما يخص مسألة تايوان، روسيا كما يراها ترامب هي أداة ضغط على الصين أكثر مما هي الصين بتحالفها مع روسيا أداة ضغط على أميركا.. إذاً التفاوض الأساسي هو مع الصين، ومن هنا يمكن القول إن مهلة ترامب لروسيا ليست من دون معنى أو من دون نتائج، الصين أهم لأميركا من روسيا وعندما يقول ترامب إنه يعرف الجواب الروسي على مهلته فهذا لا يعني أنه من السذاجة أن يعطي هكذا مهلة، وليس من السذاجة أن يعلن توقعه الرفض الروسي وبما يجعله في موقع حرج عالمي عندما تنتهي المهلة دون أن يتخذ ما يترتب عليها.
ترامب قال إنه لا يسعى لعقد لقاء قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، مؤكداً أن التقارير حول ذلك كاذبة، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى أنه من الممكن له زيارة الصين تلبية لدعوة من رئيسها وهي «دعوة مُقدمة» يضيف ترامب الذي سبق أن أعلن في حزيران الماضي أنه تلقى هذه الدعوة ووعد بإجرائها «في وقت ما».
هذه القمة هي جزء رئيسي مرتبط بالمهلة، ولا بد هنا من التنويه إلى مسألة مهمة جداً وهي أن زيارة ترامب للصين المرتقبة نهاية آب الماضي، ستتزامن معها زيارة أخرى مرتقبة لبوتين إلى الصين، هذا التزامن جعل المراقبين والمحللين يطلقون أوسع التوقعات حيال ما يمكن أن يخرج من قمة ثلاثية قد تعقد بين ترامب وشي جين بينغ وبوتين.
ترامب يعتبر نفسه مناوراً ناجحاً مع الصين عبر «الالتفاف المتاح» الذي توفره ظروف الصين نفسها.. روسيا كما يراها ترامب هي أداة ضغط على الصين أكثر مما هي الصين بتحالفها مع روسيا أداة ضغط على أميركا
ولأن زيارة ترامب للصين واللقاء مع رئيسها تطور شبه مؤكد، ولأن ترامب يريد أن يخرج رابحاً، فهو يحتاج إلى أكثر ورقة رابحة مع الصين، وهي هنا روسيا، وعليه قام بتقليص المهلة لتسبق الزيارة، وحتى لو لم تتم الزيارة فإن المفاوضات خلف الكواليس قائمة على قدم وساق، وحسب النتائج سيتم إما توسيع العقوبات على روسيا، أو أن يتم توسيع شكلي لها حتى لا يُقال إن مهلة ترامب بلا فائدة.. عندها لا عزاء للنظام الأوكراني (ولا لأوروبا).
الصين لم تعلق على مهلة ترامب، أما روسيا فقد اعتبرت أن مثل هذا السلوك من ترامب يقرب الحرب ولا يبعدها، أي الحرب الأوسع بجغرافيتها الأوروبية، يقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: أمامنا الكثير من العمل، وأهمه هزيمة العدو.. لأول مرة في تاريخها، تقاتل روسيا وحدها ضد الغرب بأكمله، في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب العالمية الثانية كان لدينا حلفاء، والآن ليس لدينا حلفاء في ساحة المعركة.. لذلك يجب علينا أن نعتمد على أنفسنا ولا نسمح بأي ضعف أو تراخٍ.
هذا التصريح يقودنا مباشرة إلى الصين، حيث إن الحرب التجارية الأميركية – الصينية تضعف من فاعلية التحالف الروسي – الصيني، وفي الوقت نفسه تحول الصين أداة ضغط على روسيا.
لكن ترامب لا يسعى لحرب أوسع مع روسيا، ليس لأن أوروبا غير جاهزة للحرب، وإن كانت في العلن تدفع باتجاهها، بل لأنه لا مصلحة لأميركا بذلك طالما هي تستطيع الكسب منها على جبهات أخرى من دون توسيعها، الحرب الأوكرانية لا تستنزف روسيا فقط بل الصين أيضاً، أو لنقل تقلص من أوراقها التفاوضية في الحرب التجارية مع أميركا.
من غير المستبعد أن تقطع تطورات مفاجئة في الشرق الأوسط مهلة ترامب.. بالنسبة لأميركا الصين توجد في منطقتنا بصورة خطرة ولا بد أن يشمل التفاوض معها الشرق الأوسط إلى جانب روسيا
عملياً، وحتى الآن، لا يمكن فهم مهلة ترامب لروسيا إلا ضمن سياق الصراع مع الصين، إلا إذا استجدت تطورات بعد انتهاء المهلة، أي أن يفاجئنا ترامب بوضع تهديدات موضع التنفيذ، ثم ما سيتبع ذلك من تطورات على صعيد المواقف والأفعال.
ولا يستبعد هنا أن تقطع تطورات مفاجئة في الشرق الأوسط هذه المهلة الأميركية أو أن تمنع تنفيذ التهديدات، حيث إن منطقتنا تكاد تستهلك كامل الوقت والجهد الأميركي، وهي في الرؤية الأميركية لمستقبل الزعامة العالمية تتقاطع مباشرة وبصورة حتمية مع الاحتفاظ بهذه الزعامة، بالنسبة لأميركا الصين توجد بصورة خطرة في الشرق الأوسط، ولا بد أن يشمل التفاوض معها الشرق الأوسط إلى جانب روسيا.
لن نستبق الأحداث بصورة قطعية، لننتظر ما بعد انتهاء مهلة ترامب، بعدها يمكن الحكم والتوقع، ويكون لكل حادث حديث.