الحرية – أمين سليم الدريوسي:
تمثل زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو حدثاً محورياً يتجاوز بكثير البروتوكول الدبلوماسي الروتيني، كونها تعد أول لقاء رفيع المستوى مع قيادة سورية الجديدة، خرجت من رحم ثورة شعبية ضد عقود من الاستبداد، وحليفٍ تاريخي دعم النظام السابق في حربه ضد شعبه، هذه الزيارة ليست مجرد استمرارية للعلاقات الثنائية، إنها محاولة جريئة لإعادة تعريف هذه العلاقة من جذورها على أسس مغايرة تماماً، السيادة الوطنية المطلقة، والندية، والمصلحة المتبادلة الصريحة، بعيداً عن إرث التبعية والابتزاز الذي ميز عهد الأسد.
تفكيك إرث التبعية.. مراجعة جذرية لـ «أعباء الماضي»
لامست العلاقة السورية– الروسية منذ عام 2015 منعطفاً حاسماً، حين تدخلت موسكو عسكرياً لصالح الأسد ضد المعارضة، هذا الدعم أعاد ترسيخ السيطرة الحكومية على مساحات واسعة، لكنّه ترك خلفه أسئلة كبيرة بشأن، مدى الشفافية في العقود العسكرية والاقتصادية الموقعة خلال تلك الفترة، بدءاً من حجم الديون المتراكمة على سوريا تجاه موسكو، خصوصاً في قطاعات الطاقة والقمح، وانعكاسات العمليات العسكرية الروسية على الساحة السياسية السورية الداخلية، ومع رحيل الأسد، بات لزاماً على الحكومة الجديدة إعادة قراءة كل بند في هذه الاتفاقات، وتحديد ما يمكن الحفاظ عليه مقابل ما يجب إعادة تفاوضه أو حله بشكل جذري.
ولا يمكن فهم الإرث العسكري والأمني الروسي في سوريا، دون الاعتراف للإرث الروسي سيئ السمعة في سوريا، والدعم العسكري الروسي الحاسم لنظام الأسد، والذي تجلى بقصف المدن وتدمير البنى التحتية، ومشاركة قوات «فاغنر»، والتي لم تكن خدمة مجانية، بل تم «دفع ثمنها» مقدماً وبقسوة عبر، تنازلات استراتيجية، مثل منح قواعد عسكرية طويلة الأمد، وهيمنة اقتصادية كعقود احتكارية لشركات روسية «خاصة في النفط والغاز والقمح والاتصالات» بأسعار وبنود مجحفة، تحت غطاء «المساعدة»، وديون مشبوهة، وهي ديون هائلة على النظام السابق مقابل أسلحة وخدمات، غالباً بأسعار مبالغ فيها ودون شفافية.
زيارة الشيباني تهدف بوضوح إلى وضع هذا الملف الشائك على طاولة المفاوضات، مطالبة الحكومة السورية الحالية من موسكو مراجعة هذه الاتفاقات، وخاصة تلك المتعلقة بالديون والعقود الاحتكارية، وهي ليست مجرد إجراء مالي، بل إعلان استقلال اقتصادي وسياسي، وهي رسالة مفادها أن سوريا الجديدة لن تتحمل تبعات صفقات فاسدة أبرمها نظام طاغية لقاء بقائه على حساب دماء السوريين وثرواتهم.
تجاوز منطق «المحاور» والتبعية، إذ كان النظام السابق مجرد ترس في آلة المحور الروسي-الإيراني، يفقد استقلاليته تدريجياً لصالح أسياده، الزيارة تؤكد سعي الحكومة الجديدة لقطع هذا الطريق، فهدفها ليس استبدال وصاية روسية بوصاية أخرى، بل إقامة علاقة دولة- دولة قائمة على القانون الدولي والمنفعة المتبادلة، والتركيز المتكرر على «الاحترام الكامل للسيادة» و«الشفافية» في خطاب الحكومة السورية الجديدة هو نقيض تام لعلاقة التبعية التي ميزت عهد الأسد مع موسكو.
الأسس الجديدة نحو شراكة سيادية ومتوازنة والأبعاد الإقليمية والدولية للزيارة
تنطوي زيارة الشيباني على رسائل متعددة المستويات، إلى الدول الغربية والجامعة العربية بأن سوريا بعد الأسد لا تبحث عن صفقات مصلحية بقدر ما تريد الاعتراف بها شريكاً عادلاً.
إلى إسرائيل بإمكانية فتح قنوات تفاوض سياسية بدل الخيارات العسكرية.
وبذلك، تشكل هذه الزيارة محطة مهمة لإعادة دمج سوريا في النسيج الإقليمي على مبدأ التوازن والاعتراف المشترك بالحدود السيادية.
إذاً الندية والاحترام المتبادل كمبدأ مركزي، هذه هي الركيزة الأساسية التي تريد دمشق بناء العلاقة عليها، ولا مجال لعلاقة «راعي- عميل»، المساواة في السيادة تعني أن المصالح السورية هي محور أي تعاون، وليس استراتيجيات روسيا الإقليمية
إعادة بناء الثقة.. تحدٍّ ليس بالسهل من أي تحالف جديد
بين دمشق وموسكو يكمن ملف الثقة، كيف يمكن لسوريا أن تثق بشريك دعم الأسد عسكرياً؟ وكيف يمكن لروسيا أن تضمن عدم تكرار فترات التوتر؟ يتجلّى الحل في، إنشاء لجنة مشتركة من خبراء اقتصاديين وسياسيين لمتابعة كل بند في الاتفاقات، كذلك تعهد روسي بعدم فرض قاعدة عسكرية جديدة أو اعتماد قواعد حالية دون موافقة دمشق الصريحة، ومنح أولوية تنفيذ المشروعات الإنسانية – كالمدارس والمستشفيات – قبل أي استثمارات دفاعية أو نفطية.
الحلول السياسية والملفات الإقليمية
تريد سوريا الجديدة أن يكون لها صوتها المستقل والمحترم في الملفات الإقليمية والدولية المتعلقة بها، مثل ملف اللاجئين والمفقودين واستقرار المنطقة، العلاقة مع روسيا في هذا السياق يجب أن تكون قناة لنقل الرؤية السورية وليس فرض الرؤية الروسية، التعاون في مواجهة الإرهاب، على سبيل المثال، يجب أن يكون ضمن إطار محدد وواضح يحترم السيادة والقوانين السورية.
التحديات والعقبات.. طريق شائك نحو السيادة
تحقيق هذا التحول الجذري في العلاقة لن يكون سهلاً، بل يواجه عقبات كبرى منها:
مقاومة المصالح الروسية الراسخة، حيث استثمرت روسيا بكثافة في سوريا «عسكرياً واقتصادياً وسياسياً» خلال سنوات الحرب، وهي لن تتخلى بسهولة عن المكاسب والامتيازات التي حصلت عليها تحت حكم الأسد، بل ستحاول موسكو استخدام ورقة «الديون» و«الدعم السابق» كأدوات ضغط للحفاظ على أكبر قدر من النفوذ.
الموروث الثقيل من عدم الثقة، جروح سنوات الحرب عميقة في الذاكرة الجمعية السورية، شرعية أي تعاون مع روسيا لدى الشعب السوري مرتبطة بشكل حاسم بمدى الاعتراف الروسي بمسؤوليتها عما حدث، والتنازل عن مكاسب حقبة الأسد، ومدى جدية احترامها لسيادة سوريا الجديدة.
التوازنات الإقليمية والدولية الدقيقة: سوريا تسعى لانفتاح دولي، وأي علاقة جديدة مع روسيا يجب أن تتناغم مع هذه الاستراتيجية ولا تعيد إنتاج العزلة السابقة، فدمشق مطالبة اليوم بمناورة دقيقة بين إعادة تعريف علاقتها مع موسكو وبناء جسور جديدة مع العالمين العربي والغربي.
الوضع الاقتصادي المزري كأداة ضغط: قد تحاول روسيا استغلال حاجة سوريا الملحة لموارد إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي لسوريا للإبقاء على شروط مجحفة أو تأخير المراجعات الجوهرية للاتفاقات القديمة.
بذرة لتحول تاريخي وبناء سورية الجديدة
وبالعودة إلى موسكو، يضع الوزير الشيباني حجر الأساس لعهدٍ جديد في العلاقات السورية–الروسية، مبني على الشفافية والسيادة المشتركة، إذ تحمل هذه الزيارة أبعاداً سياسية واقتصادية وإنسانية متشابكة، وتسير فيها سوريا بحذر بالغ، مدركةً أن إعادة بناء الدولة تتطلب تحالفات تخدم المواطن السوري أولاً، بعيداً عن مآسي الماضي، المشهد اليوم مختلف عن عهد الأسد، والمهمة الأهم أمام الحكومة الجديدة هي تحويل هذا الاختلاف إلى واقع ملموس يعزز مكانة سوريا كدولة مستقرة وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي.
قصارى القول، تعتبر هذه الزيارة أكثر من مجرد زيارة، بل إنها إعلان ميلاد لمرحلة جديدة في التاريخ السوري الحديث، إنها الجهد الأكثر وضوحاً حتى الآن لتفكيك إرث نظام استبدادي وظَّف بلاده كرهينة في خدمة مصالح قوى خارجية، ولزرع بذرة علاقة دولية قائمة على مبدأ سيادي أساسي طالما ناضل من أجله الشعب السوري.
إن نجاح هذه المهمة الصعبة – بناء شراكة متوازنة ومحترمة مع روسيا بعد تاريخ دموي ومعقد – لن يكون محسوماً، فهو يتطلب حنكة دبلوماسية استثنائية من الحكومة السورية، وإرادة سياسية حقيقية من الجانب الروسي للاعتراف بسوريا الجديدة وشعبها، والتنازل عن مكاسب غير مشروعة، كما يتطلب دعماً عربياً ودولياً لإعادة إدماج سوريا وتعزيز قدرتها التفاوضية.
أما تحول سوريا من ساحة لصراع المحاور إلى دولة ذات سيادة فاعلة تسعى لشراكات تحترم إرادة شعبها هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام الدائم والاستقرار الإقليمي، وزيارة موسكو الحالية هي خطوة جريئة ومحفوفة بالمخاطر على هذا الطريق الطويل، ونتائجها ستحدد، إلى حد كبير، ما إذا كانت سوريا قادرة حقاً على تجاوز كابوس الماضي وبناء مستقبل تستحق فيه أن تكون دولة حرة وكريمة بين الأمم.