زيارة الشيباني إلى موسكو.. تفكيك إرث الماضي وبناء علاقة سيادية جديدة بين سوريا وروسيا

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية – أمين سليم الدريوسي:

تمثل زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو حدثاً محورياً يتجاوز بكثير ‏البروتوكول الدبلوماسي الروتيني، كونها تعد أول لقاء رفيع المستوى مع قيادة سورية الجديدة، ‏خرجت من رحم ثورة شعبية ضد عقود من الاستبداد، وحليفٍ تاريخي دعم النظام السابق في ‏حربه ضد شعبه، هذه الزيارة ليست مجرد استمرارية للعلاقات الثنائية، إنها محاولة جريئة لإعادة ‏تعريف هذه العلاقة من جذورها على أسس مغايرة تماماً، السيادة الوطنية المطلقة، والندية، ‏والمصلحة المتبادلة الصريحة، بعيداً عن إرث التبعية والابتزاز الذي ميز عهد الأسد.‏

تفكيك إرث التبعية.. مراجعة جذرية لـ «أعباء الماضي»‏

لامست العلاقة السورية– الروسية منذ عام 2015 منعطفاً حاسماً، حين تدخلت موسكو عسكرياً ‏لصالح الأسد ضد المعارضة، هذا الدعم أعاد ترسيخ السيطرة الحكومية على مساحات واسعة، ‏لكنّه ترك خلفه أسئلة كبيرة بشأن، مدى الشفافية في العقود العسكرية والاقتصادية الموقعة خلال ‏تلك الفترة، بدءاً من حجم الديون المتراكمة على سوريا تجاه موسكو، خصوصاً في قطاعات الطاقة ‏والقمح، وانعكاسات العمليات العسكرية الروسية على الساحة السياسية السورية الداخلية، ومع ‏رحيل الأسد، بات لزاماً على الحكومة الجديدة إعادة قراءة كل بند في هذه الاتفاقات، وتحديد ما ‏يمكن الحفاظ عليه مقابل ما يجب إعادة تفاوضه أو حله بشكل جذري.‏
ولا يمكن فهم الإرث العسكري والأمني الروسي في سوريا، دون الاعتراف للإرث الروسي سيئ ‏السمعة في سوريا، والدعم العسكري الروسي الحاسم لنظام الأسد، والذي تجلى بقصف المدن ‏وتدمير البنى التحتية، ومشاركة قوات «فاغنر»، والتي لم تكن خدمة مجانية، بل تم «دفع ثمنها» ‏مقدماً وبقسوة عبر، تنازلات استراتيجية، مثل منح قواعد عسكرية طويلة الأمد، وهيمنة اقتصادية ‏كعقود احتكارية لشركات روسية «خاصة في النفط والغاز والقمح والاتصالات» بأسعار وبنود ‏مجحفة، تحت غطاء «المساعدة»، وديون مشبوهة، وهي ديون هائلة على النظام السابق مقابل ‏أسلحة وخدمات، غالباً بأسعار مبالغ فيها ودون شفافية.‏
زيارة الشيباني تهدف بوضوح إلى وضع هذا الملف الشائك على طاولة المفاوضات، مطالبة ‏الحكومة السورية الحالية من موسكو مراجعة هذه الاتفاقات، وخاصة تلك المتعلقة بالديون والعقود ‏الاحتكارية، وهي ليست مجرد إجراء مالي، بل إعلان استقلال اقتصادي وسياسي، وهي رسالة ‏مفادها أن سوريا الجديدة لن تتحمل تبعات صفقات فاسدة أبرمها نظام طاغية لقاء بقائه على حساب ‏دماء السوريين وثرواتهم.‏
تجاوز منطق «المحاور» والتبعية، إذ كان النظام السابق مجرد ترس في آلة المحور الروسي-‏الإيراني، يفقد استقلاليته تدريجياً لصالح أسياده، الزيارة تؤكد سعي الحكومة الجديدة لقطع هذا ‏الطريق، فهدفها ليس استبدال وصاية روسية بوصاية أخرى، بل إقامة علاقة دولة- دولة قائمة على ‏القانون الدولي والمنفعة المتبادلة، والتركيز المتكرر على «الاحترام الكامل للسيادة» و«الشفافية» ‏في خطاب الحكومة السورية الجديدة هو نقيض تام لعلاقة التبعية التي ميزت عهد الأسد مع ‏موسكو.‏

الأسس الجديدة نحو شراكة سيادية ومتوازنة والأبعاد الإقليمية والدولية للزيارة

تنطوي زيارة الشيباني على رسائل متعددة المستويات، إلى الدول الغربية والجامعة العربية بأن ‏سوريا بعد الأسد لا تبحث عن صفقات مصلحية بقدر ما تريد الاعتراف بها شريكاً عادلاً.‏
إلى إسرائيل بإمكانية فتح قنوات تفاوض سياسية بدل الخيارات العسكرية.‏
وبذلك، تشكل هذه الزيارة محطة مهمة لإعادة دمج سوريا في النسيج الإقليمي على مبدأ التوازن ‏والاعتراف المشترك بالحدود السيادية.‏
إذاً الندية والاحترام المتبادل كمبدأ مركزي، هذه هي الركيزة الأساسية التي تريد دمشق بناء ‏العلاقة عليها، ولا مجال لعلاقة «راعي- عميل»، المساواة في السيادة تعني أن المصالح السورية ‏هي محور أي تعاون، وليس استراتيجيات روسيا الإقليمية

إعادة بناء الثقة.. تحدٍّ ليس بالسهل من أي تحالف جديد‏

بين دمشق وموسكو يكمن ملف الثقة، كيف يمكن لسوريا أن تثق بشريك دعم الأسد عسكرياً؟ ‏وكيف يمكن لروسيا أن تضمن عدم تكرار فترات التوتر؟ يتجلّى الحل في، إنشاء لجنة مشتركة ‏من خبراء اقتصاديين وسياسيين لمتابعة كل بند في الاتفاقات، كذلك تعهد روسي بعدم فرض قاعدة ‏عسكرية جديدة أو اعتماد قواعد حالية دون موافقة دمشق الصريحة، ومنح أولوية تنفيذ ‏المشروعات الإنسانية – كالمدارس والمستشفيات – قبل أي استثمارات دفاعية أو نفطية.‏

الحلول السياسية والملفات الإقليمية

تريد سوريا الجديدة أن يكون لها صوتها المستقل والمحترم في الملفات الإقليمية والدولية المتعلقة ‏بها، مثل ملف اللاجئين والمفقودين واستقرار المنطقة، العلاقة مع روسيا في هذا السياق يجب أن ‏تكون قناة لنقل الرؤية السورية وليس فرض الرؤية الروسية، التعاون في مواجهة الإرهاب، على ‏سبيل المثال، يجب أن يكون ضمن إطار محدد وواضح يحترم السيادة والقوانين السورية.‏

التحديات والعقبات.. طريق شائك نحو السيادة

تحقيق هذا التحول الجذري في العلاقة لن يكون سهلاً، بل يواجه عقبات كبرى منها:‏
مقاومة المصالح الروسية الراسخة، حيث استثمرت روسيا بكثافة في سوريا «عسكرياً واقتصادياً ‏وسياسياً» خلال سنوات الحرب، وهي لن تتخلى بسهولة عن المكاسب والامتيازات التي حصلت ‏عليها تحت حكم الأسد، بل ستحاول موسكو استخدام ورقة «الديون» و«الدعم السابق» كأدوات ‏ضغط للحفاظ على أكبر قدر من النفوذ.‏
الموروث الثقيل من عدم الثقة، جروح سنوات الحرب عميقة في الذاكرة الجمعية السورية، شرعية ‏أي تعاون مع روسيا لدى الشعب السوري مرتبطة بشكل حاسم بمدى الاعتراف الروسي ‏بمسؤوليتها عما حدث، والتنازل عن مكاسب حقبة الأسد، ومدى جدية احترامها لسيادة سوريا ‏الجديدة.‏
التوازنات الإقليمية والدولية الدقيقة: سوريا تسعى لانفتاح دولي، وأي علاقة جديدة مع روسيا يجب ‏أن تتناغم مع هذه الاستراتيجية ولا تعيد إنتاج العزلة السابقة، فدمشق مطالبة اليوم بمناورة دقيقة ‏بين إعادة تعريف علاقتها مع موسكو وبناء جسور جديدة مع العالمين العربي والغربي.‏
الوضع الاقتصادي المزري كأداة ضغط: قد تحاول روسيا استغلال حاجة سوريا الملحة لموارد ‏إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي لسوريا للإبقاء على شروط مجحفة أو تأخير المراجعات ‏الجوهرية للاتفاقات القديمة.‏

بذرة لتحول تاريخي وبناء سورية الجديدة ‏

وبالعودة إلى موسكو، يضع الوزير الشيباني حجر الأساس لعهدٍ جديد في العلاقات السورية–‏الروسية، مبني على الشفافية والسيادة المشتركة، إذ تحمل هذه الزيارة أبعاداً سياسية واقتصادية ‏وإنسانية متشابكة، وتسير فيها سوريا بحذر بالغ، مدركةً أن إعادة بناء الدولة تتطلب تحالفات تخدم ‏المواطن السوري أولاً، بعيداً عن مآسي الماضي، المشهد اليوم مختلف عن عهد الأسد، والمهمة ‏الأهم أمام الحكومة الجديدة هي تحويل هذا الاختلاف إلى واقع ملموس يعزز مكانة سوريا كدولة ‏مستقرة وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي.‏
قصارى القول، تعتبر هذه الزيارة أكثر من مجرد زيارة، بل إنها إعلان ميلاد لمرحلة جديدة في ‏التاريخ السوري الحديث، إنها الجهد الأكثر وضوحاً حتى الآن لتفكيك إرث نظام استبدادي وظَّف ‏بلاده كرهينة في خدمة مصالح قوى خارجية، ولزرع بذرة علاقة دولية قائمة على مبدأ سيادي ‏أساسي طالما ناضل من أجله الشعب السوري.‏
إن نجاح هذه المهمة الصعبة – بناء شراكة متوازنة ومحترمة مع روسيا بعد تاريخ دموي ومعقد ‌‏– لن يكون محسوماً، فهو يتطلب حنكة دبلوماسية استثنائية من الحكومة السورية، وإرادة سياسية ‏حقيقية من الجانب الروسي للاعتراف بسوريا الجديدة وشعبها، والتنازل عن مكاسب غير ‏مشروعة، كما يتطلب دعماً عربياً ودولياً لإعادة إدماج سوريا وتعزيز قدرتها التفاوضية.‏
أما تحول سوريا من ساحة لصراع المحاور إلى دولة ذات سيادة فاعلة تسعى لشراكات تحترم ‏إرادة شعبها هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام الدائم والاستقرار الإقليمي، وزيارة موسكو الحالية ‏هي خطوة جريئة ومحفوفة بالمخاطر على هذا الطريق الطويل، ونتائجها ستحدد، إلى حد كبير، ما ‏إذا كانت سوريا قادرة حقاً على تجاوز كابوس الماضي وبناء مستقبل تستحق فيه أن تكون دولة ‏حرة وكريمة بين الأمم.‏

Leave a Comment
آخر الأخبار