عندما ينزف إصبعك.. هل تقطعه؟

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – يسرى المصري:

“إذا أخبرك أحدهم أن المطر يهطل، وقال آخر إن الشمس مشرقة، فلا تقتبس كلامهما فحسب، بل انظر من النافذة وتحقق بنفسك”.
نحتاج إلى تفكير عميق قبل أن ننساق وراء الشائعات ومن البدهيات أن إصبعك عندما ينزف وتتألم لا تقطعه بل تداويه وتعالجه، ولأن المهمة وطنية علينا أن نداوي جميعاً جروح بعضنا بعضاً ونسارع في وقف النزيف فكل قطرة دم هي سورية وهذا يكفي.
يقولون إن السويداء تشكل 3% من مساحة سوريا.. لكنها ككل المحافظات السورية نحبها 100% نحب إخوتنا الدروز وإخوتنا العلويين ونحب إخوتنا الشيعة ونحب إخوتنا المسيحيين وحتى اليهود من السوريين نحبهم، لا نفرق بين أحد منهم.. فكلهم سوريون وإخوة لنا في العيش المشترك في السراء والضراء..لا يهم من أين أنت من إدلب من الدير من حلب من طرطوس من درعا من دمشق أو السلمية من الحسكة أو اللاذقية وحمص وحماة..أنت سوري ولن تنجح سوريا الا بجهودنا جميعاً.. سنوات وسنوات مئات السنوات ونحن نفرح معاً ونحزن معاً ونتقاسم الخبز ورائحة الطهر ونتكئ على بعضنا ونحمي بعضنا.. فما الذي تغير؟
ثمة من يحارب ذلك الحب والتعايش السلمي، في سوريا حرب مخططة ومدروسة تتوجه إلى الناس حيث تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى ميادين لتغذية الانقسامات الطائفية وتأجيج العنف المجتمعي، فمع كل توتر أمني أو اضطراب سياسي، يتدفّق سيل من الأخبار الزائفة والمقاطع المفبركة التي تستثير المشاعر وتعيد إنتاج خطاب الكراهية، ليجد السوريون أنفسهم أمام مشهد إعلامي غارق في التضليل يصعب فيه التمييز بين الحقيقة والافتراء.
لكن اللافت أن هذه المواد المضللة تُصاغ بعناية لتضرب على وتر الهويات والانتماءات، وتُعيد إنتاج الانقسام بين مكونات المجتمع السوري، مستفيدة من هشاشة البيئة المعلوماتية وانعدام الثقة واستعداد الكثيرين لتصديق كل ما يعزز روايتهم الطائفية أو السياسية.
واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك، ما نشره رئيس حزب التوحيد اللبناني، وئام وهاب، من مقطع فيديو زعم أنه يوثّق قصفًا حكوميًا على مدينة السويداء، ليتبيّن لاحقًا أنه يعود لعام 2022 ويُظهر غارة روسية على خاركيف الأوكرانية.
والمعضلة الحقيقية لا تقف عند حدود التشويش على الوعي أو تقويض السرديات، بل تتعداها إلى إشعال فتائل أزمات على الأرض، ففي نيسان، أدّت شائعة مفبركة عن تسجيل صوتي مسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في مدينتي جرمانا وصحنايا بريف دمشق، أسفرت عن مقتل وجرح العشرات، بينهم عناصر من قوات الأمن، ورغم نفي وزارة الداخلية لصحة التسجيل، لكن كانت الكارثة قد وقعت، لتؤكد مرة أخرى أن الكلمة المفبركة قد توازي الرصاصة في قدرتها على التدمير.
في هذا السياق، يلفت تقرير صادر عن مركز “Atlantic Council” إلى أن الشائعات لم تكن مجرد انحرافات معلوماتية عابرة، بل جرى توظيفها عمدًا كسلاح استراتيجي لتعزيز الخوف وتفجير الانقسامات الطائفية
في الاتجاه ذاته، كشفت “بي بي سي” في تحقيق استقصائي نُشر في أيار الماضي، عن نشاط مكثف لشبكات من الحسابات الخارجية على منصة “إكس”، بلغ عدد منشوراتها 50 ألفًا خلال تمرد الساحل، %60 منها صادرة من خارج سوريا، وتحديدًا من العراق واليمن ولبنان وإيران، وكان من أبرز الادعاءات الكاذبة التي نشرتها وتداولتها خبر مضلل عن إعدام كاهن كنيسة مار إلياس، وهو ما نفته الكنيسة لاحقًا.
تعمل خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وفق مبدأ بسيط وخطير في آنٍ معًا.. ما تتفاعل معه، يُغذَّى لك باستمرار، وبذلك فإن مجرد مشاهدة أو مشاركة منشور معين يفتح الباب لتدفّق محتوى مشابه، دون تمييز بين الصحيح والمضلل، وفي بيئة مشحونة يتحوّل هذا السلوك الخوارزمي إلى آلة تضخيم للأخبار الكاذبة، تُكرّس الانقسامات وتغذّي الكراهية.
في هذا السياق، تحذّر الباحثة باربرا والتر في كتابها “كيف تندلع الحروب الأهلية؟ وكيف يمكن إيقافها؟” من العوامل التي تقود الدول إلى التفكك، وعلى رأسها الانقسامات الهوياتية الحادة، الدينية أو العرقية، حين تقترن بتسلّح المجموعات ووجود قيادات انتهازية، وتُشير والتر تحديدًا إلى الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع هذا الانهيار، نظرًا لقدرتها على تضخيم المحتوى التحريضي عبر خوارزميات تُبرز ما يثير الخوف والغضب، وتمنح الأكاذيب أفضلية الوصول على حساب الحقائق.
ورغم أن انتشار الأخبار الكاذبة ظاهرة عالمية، إلا أن تأثيرها يصبح أشد وطأة في البيئات الهشة، وفي ظل هذا الفراغ، تضاعف تأثير المواد المفبركة والمضللة، خاصة مع غياب مصادر رسمية موثوقة تغطي الأحداث الميدانية أو تواكبها، في ملء هذا الفراغ ، بدءًا من تأخّر الجهات المعنية في تحديد ناطقين رسميين أو منصات موحدة للمعلومات، الأخبار الزائفة باتت أدوات تعبئة وتحشيد، ووسائل لشيطنة الخصوم وإعادة ترسيم خطوط الانقسام، وهو ما يجعل من مواجهة التضليل الإعلامي أولوية وطنية، وجرس إنذار للحكومة لملء الفجوة المعلوماتية، وتطوير منظومة تواصل شفافة وفعالة، تقي المجتمع شر الفتنة الرقمية، وتمنح السوريين فرصة للتفكير مرتين قبل تصديق أو نشر أي معلومة.

الوسوم:
Leave a Comment
آخر الأخبار