عمّان محطة اختبار أخرى للمسار السوري.. اجتماع سوري أردني أمريكي.. هل يكون الخيط الأول في حياكة قماشة واقع جديد؟

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

أمين سليم الدريوسي

في لحظة إقليمية حسّاسة تتقاطع فيها اعتبارات الأمن والاقتصاد والسياسة، تستضيف عمّان غداً اجتماعاً ثلاثياً يجمع وزيرَي خارجية سوريا أسعد الشيباني، والأردن أيمن الصفدي، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توم باراك.
هذا الاجتماع ليس مجرّد محطة بروتوكولية، فتركيبة المشاركين، وحمولة الملفات المطروحة، وتوقيت اللقاء بعد سنوات من الاستنزاف السوري والإقليمي، تجعل منه مناسبة لقياس مدى استعداد الأطراف للانتقال من إدارة الأزمة إلى هندسة حلول متدرجة، تُراعي الوقائع على الأرض وتستجيب لحاجات الناس قبل الشعارات، وأهمية هذا الاجتماع لا تُختزل بنتائجه المباشرة، بل بالمسار الذي قد يفتحه إن توافرت له الإرادة والحد الأدنى من الثقة المتبادلة.

– ثلاثة أبعاد متداخلة

أولًا، الاجتماع يضع الأردن، المتأثر مباشرةً بارتدادات الأزمة السورية، في موقع الوسيط ذي المصلحة الأمنية والاقتصادية، ما يمنحه رصيدًا لتسهيل تفاهمات عملية.
ثانياً، الاجتماع يُعيد فتح قناة سياسية مع واشنطن حول سوريا بصيغة إقليمية، تكسر الجمود وتختبر إمكانات التلاقي بين هواجس الأمن ومحركات التعافي الإنساني والاقتصادي.
ثالثًا، الاجتماع يمنح دمشق فرصة لوضع رؤيتها لإعادة الإعمار على الطاولة ضمن مقاربة تؤكد السيادة ووحدة الأراضي، وتبحث عن شرعية تعاون دولي لا يتصادم مع الوقائع القانونية والسياسية السائدة.

– إعادة الإعمار على أسس الاستقرار والسيادة

في صدارة جدول الأعمال، تأتي إعادة الإعمار على أسس الاستقرار والسيادة، الفكرة هنا ليست مجرّد تمويل مشاريع بنية تحتية، بل إعادة بناء منظومة الحياة اليومية: كهرباء ومياه وطرق ومستشفيات ومدارس وأسواق عمل، أي مقاربة واقعية ستتطلب التوفيق بين القيود المفروضة بالعقوبات واللوائح التنظيمية من جهة، وبين ضرورة إطلاق مشاريع سريعة الأثر من جهة أخرى، عبر نوافذ إنسانية وتنموية محمية قانونياً من منظور سوري، تثبيت مبدأ أن الإعمار ليس ورقة ابتزاز سياسية وإنما شرطا لبناء الثقة، ومن منظور أردني وأمريكي، الربط بين الإعمار والاستقرار وشفافية الإنفاق والحوكمة سيكون معياراً لأي انخراط مباشر أو غير مباشر.

– تثبيت وقف إطلاق النار في الجنوب

إلى جانب ذلك، يبرز ملف تثبيت وقف إطلاق النار في الجنوب السوري بوصفه حجر الزاوية لأمن الحدود الأردنية ولإعادة الحياة المدنية في محافظات مثل درعا والسويداء والقنيطرة، النقاش المرتقب لن يقتصر على الصيغ العسكرية التقليدية، بل سيطرق آليات اتصال ميدانية، وضوابط لمنع الاحتكاكات، وإجراءات تتيح للأجهزة الأمنية المحلية أداء مهامها وفق معايير تقلّص فرص الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة، التهدئة المتماسكة في الجنوب تُشكّل اختبار نضج لأي تفاهم ثلاثي، إن نجحت، يمكن تعميم مبادئها على بؤر توتر أخرى، وإن تعثرت، ستنعكس فوراً على تجارة الحدود وحركة اللاجئين والممرات الإنسانية.

– مسار المصالحة المجتمعية

يُعدّ هذا المسار رافعة معنوية وسياسية لأي عملية استقرار، فالذاكرة المثقلة بالنزاع والانقسام لا تُدار بقرارات أمنية فقط، بل بخطوات تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، إنشاء لجان محلية مستقلة نسبياً تُعنى بتسوية الأوضاع، وتفعيل قنوات لمتابعة ملفات المفقودين والموقوفين بآليات شفافة وقابلة للتدقيق، من دون هذه العناصر، سيظل أي تحسّن اقتصادي هشّاً، لأن الخوف والشك يُعطلان المبادرة الفردية والاستثمار ويُبقِيان المجتمع في حالة انتظار متوترة.
أما المساعدات الإنسانية والاقتصادية فتتطلب صياغة معادلة واقعية تجمع الإغاثة العاجلة مع التعافي المبكر، هذا يعني الانتقال من طرود الطعام إلى تأهيل شبكات مياه، وصرف صحي، ومن خطوط الطوارئ الطبية إلى دعم سلاسل الإمداد الدوائية، ومن منح الاستهلاك إلى برامج توليد الدخل الصغيرة والمتوسطة، ونجاح هذه المقاربة يستوجب آليات رقابة شفافة ومحدّثة تقنياً، تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها وتحد من التسرّب والازدواجية، مع مراعاة خصوصيات المناطق المختلفة وعدم تسييس مصادر التوزيع، الأردن بما يمتلكه من خبرات في إدارة ملفات اللجوء والتمويل الدولي، قادر على نقل دروس عملية إلى الطاولة.

– التنسيق الأمني ومكافحة الإرهاب

في السياق ذاته، يُطرح بقوة هذا البند على طاولة المباحثات فالتهديدات لم تعد نمطية، والخلايا الصغيرة، والشبكات العابرِة للأقاليم، واستلهام التكتيكات من ساحات أخرى، كلها عوامل تفرض شراكات معلوماتية وعملياتية مرنة، المطلوب ليس فقط تبادل بيانات أو اجتماعات دورية، بل بروتوكولات تحرّك مشتركة على طول الحدود وفي عمق المناطق الحساسة، وتطوير أدوات للإنذار المبكر، وتحييد المدنيين عن مسارح الاشتباه، من شأن نجاح هذا التنسيق أن يخلق مناخاً أوسع للأمن الإنساني: مدارس تعمل بلا انقطاع، أسواق تستأنف نشاطها، وطرق آمنة
لمرور السلع والأفراد.

– مواجهة تجارة المخدرات

لا يمكن فصل الأمن عن مواجهة تجارة المخدرات التي تُستخدم تمويلاً للنشاطات غير المشروعة . توسّع هذه التجارة في السنوات الأخيرة حوّلها إلى تهديد مركّب: اقتصادياً تُفسد الأسواق وتستنزف العملة، مجتمعياً تُدمّر الفئات الشابة، وسياسياً تُشكّل مصدر تمويل موازٍ يُقوّض الدولة ويشوّش علاقات الجوار، لذلك، فإن أي تفاهم ثلاثي جدي سيحتاج إلى حزمة متكاملة: تشديد رقابة الحدود المشتركة، تفكيك شبكات التوزيع الداخلية، تطوير قدرات التتبع المالي، وتفعيل تعاون قضائي يلاحق الجرائم عبر الحدود، ونجاح هذه الحزمة يقاس بقدرة السلطات على تقليص جدوى هذه التجارة ومخاطرها البنيوية.

– الدور الأمريكي

في قلب النقاش أيضاً يدور الحديث عن الدور الأمريكي في المرحلة المقبلة إذ إن واشنطن تمسك بخيوط حساسة: منظومة العقوبات والقيود المالية، التأثير على مؤسسات التمويل الدولية، الحضور العسكري المحدود ضمن تحالفات مكافحة الإرهاب، وشبكات شراكات مع فاعلين محليين وإقليميين. إعادة تعريف هذا الدور تتطلب موازنة دقيقة بين أهداف منع عودة التهديدات الإرهابية، وتخفيف المعاناة الإنسانية، وعدم منح مكاسب مجانية بلا إصلاحات ملموسة، إحدى المقاربات الممكنة تتمثل في مسارات ترخيص موجهة تسمح بتمويل مشاريع تعافٍ مبكر ذات أثر مباشر على المدنيين، مقابل خطوات تدريجية في ملفات إنسانية وحقوقية وأمن حدودي، بما يحفظ قابلية المسار للاستمرار.

– الملف الإنساني والعودة الطوعية

وضمن المنظومة الأوسع، يبرز الملف الإنساني بوصفه اختباراً أخلاقياً وعملياً في آن، فالمشهد الإنساني في سوريا شديد التعقيد: اقتصاد منهك، بنى تحتية متقادمة، تضخم يلتهم المداخيل، وشرائح واسعة على حافة انعدام الأمن الغذائي، التعاطي مع هذا المشهد يحتاج إلى خطاب أقل شعارات وأكثر أرقاماً وأولويات: أمن غذائي أساسي، صحة أولية، تعليم أساسي مرن يراعي الفجوات التعليمية، ومياه نظيفة، كل تقدّم في هذه المحاور يُترجم مباشرة إلى استقرار اجتماعي يقلّص دوافع الهجرة غير الشرعية ويعيد الاعتبار لكرامة الحياة اليومية.
يرتبط بذلك ملف العودة الطوعية للاجئين، ولا سيما الموجودين في الأردن ولبنان وتركيا. جوهر العودة الطوعية يكمن في ثلاثة شروط: الأمان الفعلي في مناطق العودة، الضمانات القانونية والإدارية المتعلقة بالوثائق والملكية والخدمة الإلزامية وتسوية الأوضاع، وفرص معيشية لا تُرغم العائد على نزوح جديد داخل بلده، أي آلية عملية ستحتاج إلى خرائط طريق محلية محددة المناطق، مع حزم تحفيز مادية وخدماتية، وسجلات متابعة فردية تضمن عدم التعرّض وتُيسّر الحصول على الخدمات، إن نجحت نماذج تجريبية على نطاقات جغرافية محدودة، يمكن توسيعها تدريجياً بما يخفف الضغط عن الدول المضيفة ويعيد التوازن الديمغرافي والاقتصادي داخل سوريا.
ولا ينفصل هذا كله عن الوضع الإنساني داخل سوريا الذي لا يزال هشًا، فهناك ملايين الأشخاص بين نازح وفقير وعاطل عن العمل لا تعنيهم تعقيدات الدبلوماسية بقدر ما يعنيهم توفر الدواء والغذاء والكهرباء وفرصة تعلم لأبنائهم، لذلك، فإن ربط المسار السياسي بمؤشرات تحسّن ملموسة في الخدمات والأسعار وفرص العمل يمنح العملية برمتها شرعية شعبية، في هذا السياق، يمكن لبرامج النقد مقابل العمل، ودعم الزراعة الصغيرة، وإعادة تأهيل المراكز الصحية والمدارس، أن تكون جسوراً بين الطوارئ والتنمية، شريطة أن تُصمّم بمشاركة مجتمعية وتُراقب بمهنية.
من زاوية البُنية الإقليمية، يأتي الدور الأردني عنصراً مرجّحاً، فالخبرة التراكمية لعمان في إدارة الحدود، وتوازن علاقاتها الدولية، وقدرتها على جمع متخاصمين حول طاولة واحدة، تمنحها ميزة وسيط واقعي يعرف دقائق الملف ولا يبيع أوهاماً، ونجاح الأردن في التوصل لتفاهمات أمنية حول الجنوب، وربطها بمسارات إغاثية وتنموية، سيؤسس لنموذج قابل للتكرار، بالمقابل، فشل المسعى يعني استمرار نزيف التهريب وتصاعد الكلف الأمنية والاقتصادية على الجانبين.

أما سوريا، فهي أمام فرصة ومسؤولية في الوقت نفسه، الفرصة تكمن في تقديم سلوك يُطمئن الجوار والمجتمع الدولي: تسهيل الممرات الإنسانية، توسيع مساحات المصالحة، ضبط شبكات الفساد والتهريب، والتوافق على آليات رقابية للإعمار والتعافي، والمسؤولية تتمثل في ترجمة الخطاب السيادي إلى سياسات احتوائية تُعيد دمج المجتمعات المحلية، وتستوعب النقد، وتفتح منافذ لاقتصاد منتج بدلاً من اقتصاد الريع والتهريب، كل خطوة ملموسة ستُحدث صدى يتجاوز عقبات السياسة التقليدية.

– المخرجات المحتملة

ويبقى السؤال: ما الذي يمكن أن يخرج به اجتماع الغد عملياً؟

السيناريو الأكثر ترجيحاً هو إنتاج حزمة تفاهمات من مستوى العمل لا الشعارات، تتضمن إنشاء فرق فنية مشتركة لملفات الجنوب والحدود والمخدرات، جداول زمنية قصيرة لمؤشرات التهدئة، آليات اتصال مباشر لخفض التصعيد الميداني، مذكرات تفاهم إنسانية تسمح بتوسيع نطاق التعافي المبكر، وخارطة طريق أولية لعودة طوعية تجريبية بضمانات قابلة للقياس، مثل هذه الحزمة لا تنهي المعضلات، لكنها تُغيّر المزاج وتُعيد تعريف الممكن.
طبعاً، ثمة تحديات لا يمكن الاستخفاف بها، مثل انعدام الثقة المتراكمة، تضارب أجندات الفاعلين الخارجيين، حدود قدرة الاقتصاد السوري على امتصاص الصدمات دون إصلاحات، وحساسية المشهد السياسي الداخلي، فوق ذلك، تتربص قوى التهريب والاقتصاد غير المشروع بأي تسوية تهدد مصادر ربحها، إذاً التحدي ليس في إعلان النوايا، بل في بناء «هندسة تنفيذ» دقيقة تُمسك بالتفاصيل: من هو المسؤول عن ماذا؟ كيف تُقاس النتائج، ما هي كوابح الارتداد؟ ومن يضمن الاستمرارية عبر تغيّر المزاجات السياسية؟

– تكلفة الانتظار أعلى من تكلفة التجريب

مع ذلك، فإن تكلفة الانتظار أعلى بكثير من تكلفة التجريب المراقَب. السوري الذي يبحث عن دواء لابنته لا ينتظر اتفاقًا تاريخياً، بل استقرارٌ كهربائيٌ وسعر معقول وشارع آمنٌ. الأردني الذي يراقب حدوده الجنوبية يريد أن يسمع أقل عن اشتباكات وضبطيات وأكثر عن اقتصاد يتنفس ونقاط عبور تعمل، والولايات المتحدة التي تنظر إلى المشهد من زاوية مخاطر الإرهاب والهجرة والاضطراب الإقليمي، تحتاج إلى مسار يُظهر أن الأدوات الدبلوماسية والإنسانية قادرة على صناعة فارق من دون أن تغامر بأمنها أو مبادئها.
خلاصة القول، اجتماع عمّان ليس عصا سحرية، لكنه قد يكون الخيط الأول في حياكة قماشة واقع جديد، إذا ما قررت الأطراف التعامل مع التعقيد كحقيقة لا كذريعة، العنوان الأوسع بسيط ومعقّد في آن: كيف نُعيد تعريف المصلحة المشتركة بحيث تُصبح «راحة الناس وأمنهم وكرامتهم» معيار النجاح؟ الإجابة ليست في بيان ختامي بل في سلسلة قرارات صغيرة متتابعة، تُراكم الثقة وتُقلّل الألم وتفتح نوافذ أمل، هناك لحظات نادرة يصبح فيها الممكن السياسي مرادفاً للواجب الأخلاقي؛ اجتماع الغد قد يكون أحدها إن تحوّلت الكلمات إلى خرائط، والخرائط إلى أفعال.

Leave a Comment
آخر الأخبار
انطلاق المرحلة الثانية من مشروع تعزيز القدرة على الصمود المحلي بسوريا "BLRS" في ندوة حول أمراض الزيتون..  اتحاد فلاحي اللاذقية: المزارعون الأكثر معاناة.. والقطاع بحاجة إلى التكا... سوريا- العراق.. تقارب اقتصادي يعيد خط كركوك- بانياس إلى الواجهة.. أمن الطاقة وتنويع مسارات التصدير و... وزير الثقافة يفتتح فعاليات "حمص تاريخ يُروى وثقافة تُبنى"من قصر الثقافة عمّان محطة اختبار أخرى للمسار السوري.. اجتماع سوري أردني أمريكي.. هل يكون الخيط الأول في حياكة قماشة... سوريا في المركز الثالث عالمياً بجائزة مدارس التميز البرمجي للموسم الحالي إنقاذ القطاع مرهون بتطبيق قرار منع المجمّد.. موجة الحر تفتك بقطعان الدواجن رئيس غرفة زراعة حلب متفائل بإنتاج فروج محلي وفير يغطي الاحتياجات اليومية.. ولا غلاء بأسعار المادة هل نجمّل ملامحنا أم نخفي هشاشتنا؟.. عمليات التجميل سباق محموم خلف صورة مثالية لا تعكس الواقع أولمبينا إلى لبنان استعداداً لكأس آسيا