الحرية- أمين سليم الدريوسي:
الخير والشر.. ثنائية الوجود، خلق الله هذا الكون على توازن دقيق، قائم على الثنائيات، النور والظلام، الماء والنار، الفرح والحزن، الخير والشر، هذه الثنائيات ليست تناقضات عابرة، بل مفاتيح لفهم الحياة وتقديرها، لماذا نحتاج إلى الشر؟ لنفهم الخير، الخير بلا شر يصبح روتيناً لا يُقدَّر، تخيّل عالماً لا يوجد فيه ظلم، لا خوف، لا ألم، هل كنا سنشعر بجمال الرحمة؟ الشر يكشف معدن الإنسان الحقيقي، وفي لحظات الظلام يظهر النور الحقيقي في قلوب الناس، فمن يواجه الشر بالخير هو من يستحق أن يُسمّى إنساناً، ومن هنا فثنائيات الوجود ليست دعوة للتسليم، بل بوصلتنا لاختيار الضوء كلّ مرة،
وكما قال أحد الحكماء: «الظلام لا يُطرد بالظلام، بل بالنور، والكراهية لا تُهزم بالكراهية، بل بالمحبّة»، ومن يشعل النار عمداً فهو من نسل الشر، حين يتعمد أحدهم إشعال الحرائق وتدمير الطبيعة وقتل الحياة، فهو لا ينتمي إلى فطرة الخير التي خُلق الإنسان عليها، من يُقدم على إشعال النار عمداً يُمارس فعلاً شيطانياً، ويخون إنسانيته ويفسد في الأرض كما يفعل الشيطان.
هو لا يحرق الأشجار فقط، بل يحرق القلوب التي فقدت الرحمة، من يشعل النار في الغابات، يشعلها في مستقبل أطفالنا، وهؤلاء لا يملكون من الإنسانية إلا الشكل، أما الجوهر فمظلم، ملوث، لا يعرف الرحمة ولا الجمال.
في وجه النار، الخير لا يموت ولا يُهزم، فكما تنبت الأشجار من تحت الرماد، تنبت الرحمة من قلب كل من يرفض الشر ويواجهه بالفعل والكلمة، وعلى هذه الأرض التي تمتحنها النار، تتكشّف المعادن الأصيلة في الناس كما تتكشّف الجذور في التربة.
في قرية عناب، التي أتت النار على كامل غابتها ومنازل أهلها، حيث كانت الدروب تتغنّى برائحة الصنوبر والسنديان وعشرات الأنواع من الأشجار، وقف الأهالي صفّاً واحداً، ليوقفوا زحف الحرائق، يحملون الدلاء كأنهم يحملون قلوبهم إلى الماء غير آبيهم أن احترقوا بلظى النار أم لا، وفي عين الكروم، حيث انحنت الأغصان من وهج اللهب، لكن العيون ظلّت عالية، ترشّ الأمل على الجمر كي لا يبرد العزم، وفي قرية نبع الطيب، حيث يفيض الاسم ماءً وسلاماً، اندفع أهلها كينابيعها يحملون الماء والرجاء، يطاردون النار بأذرعٍ متكاتفة كي لا ينطفئ في القلوب ضوء المكان، وعند قرية نهر البار، انعكس لهيب المساء على صفحة الماء، فصار النهر مرآةً لصلابة الضفاف لا لضعفها، أمّا في فقرو، فاشتعلت التلال واشتعلت معها الحناجر بالدعاء والعمل، يزرعون في وجه الشر خطوطًا من ضوء، وفي بيت ياشوط، حيث اختُبر العمل الجماعي أمام الدخان الثقيل الذي اجتاح غاباتها، فتحت البيوت نوافذها للهواء وللناس، فصار الجوار عائلة واحدة لا تُكسَر.
وهكذا، حين يشتعل الشر في الأغصان، ينهض الخير في الإنسان، نُنقذ شجرة اليوم لنحفظ غابة الغد، إنّ الحياة أقوى من الرماد، وإنّ يداً تمتدّ ليد معها فإنهما تكسران سلسلة النار.
من رماد عناب وعين الكروم ونبع الطيب ونهر البار وفقرو وبيت ياشوط، سنكتب فصلاً جديداً للحياة، سنعيد زرع ما أُحرق، نُضمِّد ما انكسر، ونعلم أبناءنا أن النور لا يهزم الظلام بالكلام، بل بالفعل، وأن الشجرة التي تُسقى بالمحبّة تعود فتورق، ولو بعد حين، فمعاً، نزرع غابة الغد بقلوبٍ متكاتفة، ونحرسها بأيدٍ لا تترك النار تنتصر.