الحرية – مها سلطان:
انتهت قمة ترامب- بوتين على معسول الكلام، مدحاً وإشادة وإطلاق الآمال بأن المسار نحو إنهاء حرب أوكرانيا بات أوسع وأسهل، حتى بدا وكأن القمة شخصية أكثر منها قمة يتحدد معها مصير نصف العالم (أوكرانيا وأوروبا) فيما مصير النصف الآخر يتوقف بدوره على مصير النصف الأول.
استمر الكلام المعسول بعد القمة ليمنح ترامب لقاءه مع بوتين «عشرة على عشرة»، وهو يتحدث عن أنه أجرى اتصالات هاتفية مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وقادة دول الناتو لوضعهم في صورة ما تم الاتفاق عليه في اللقاء الذي جرى أمس الجمعة في قاعدة «إلمندورف – ريتشاردسون» العسكرية، في ولاية آلاسكا الأمريكية، حيث استغرقت المحادثات بين ترامب وبوتين- التي أجريت بصيغة 3 مقابل 3 ساعتين و45 دقيقة.
إذا ما أخذنا نسبة عشرة على عشرة التي تحدث عنها ترامب نراها تتناسب مع ما صدر من كلام معسول، رغم أن القمة لم تنتهِ إلى بيان ختامي يوضح التفاصيل وعلى أي نتائج انتهت، ورغم أن المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب وبوتين في نهايتها لا يمكن تصنيفه كمؤتمر صحفي، بل نصف مؤتمر، حيث تحدث كلاهما بشكل مقتضب دون التطرق إلى تفاهمات وتوافقات، ولم يُسمح للصحفيين المزدحمين أمامهما بطرح أي أسئلة. قالا ما قالاه وغادرا، تاركين للأوساط الدولية، مسؤولين ومحلليين وخبراء، مهمة فك الأحاجي حول ما يمكن أن يكون جرى في القمة وما تم الاتفاق عليه.. وما يمكن أن نشهده في الأيام المقبلة.
الطابع العام يتجه نحو أن ترامب وبوتين يعتبران مجرد تحقق القمة بينهما هو إنجاز و«انتصار». إنه عرض واستعراض محلي وعالمي يحتاجانه، حيث العالم بأسره يراقب. ليس بالضرورة أن تكون هناك اتفاقات في ختام القمة، فهي غير متاحة في هذه المرحلة وهو ما يدركه كلاهما، ولكن تحت ضغط وإلحاح أوروبي عالمي (ومحلي) اختارا أن يعقدا هذه القمة، ولكن المحصلة النهائية هي لا شيء.
القمة انتهت إلى نصف مؤتمر صحفي دون بيان ختامي.. ترامب وبوتين قالا ما قالاه وغادرا تاركين للأوساط الدولية مهمة فك الأحاجي حول ما جرى وما تم الاتفاق عليه وما ستشهده الأيام المقبلة
ولكن هل الحال كان كذلك فعلاً؟
عملياً، لا يمكن الركون إلى هذا الطابع العام، فهو يتعامل مع القمة بسذاجة نوعاً ما، أو بعبارة أدق يتعامل مع القمة بأنها لا يمكن أن تحقق شيئاً على مستوى إنهاء الحرب في أوكرانيا، قياساً لحجم التعقيد الذي يعترض جميع طرق إنهائها.
إذا ما أخذنا القمة من هذا المنظور يمكن القول إنها لن تحقق شيئاً، وكان كل من ترامب وبوتين خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب القمة أشارا صراحة إلى أن أوكرانيا كانت أحد الملفات الرئيسية على طاولة القمة، وليست الملف الرئيسي.. حسناً، هذا يقودنا مباشرة إلى سؤال حول الملفات الأخرى الرئيسية، وهل كانت تحالفات روسيا الدولية (مع الصين تحديداً) أو الشرق الأوسط أو كانت العقوبات والعلاقات التجارية، ضمنها؟
الجواب حتماً هو نعم، إذا ما أخذنا بالاعتبار تراجع الاهتمام الأمريكي بأوروبا، مقابل الصين والشرق الأوسط، ولكن هل هذا يعني أن أمريكا لا تحتاج إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، أو أن بوتين لا يحتاج ذلك رغم أنها حرب تستنزف الكثير من مقدرات روسيا العسكرية والبشرية والاقتصادية، إضافة إلى سمعة روسيا الدولية (نفوذها العالمي في جانب رئيسي من هذه السمعة) وهل أن أمريكا وروسيا تحتاجان أولاً الاتفاق في الملفات الدولية الرئيسية الأخرى حتى يمكن التوصل إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا على قاعدة أوراق القوة، والتنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف للآخر على الساحة الدولية، حيث أوكرانيا هي ورقة فقط؟
المفارقة هنا، أنه في روسيا يعتبرون كل لقاء لبوتين (أو كل تواصل بينهما ولو في أدنى المستويات) هو إنجاز وانتصار للدبلوماسية الروسية، فكيف الحال وترامب سعى وعمل من أجل اللقاء مع بوتين؟
ترامب وبوتين أشارا صراحة إلى أن أوكرانيا كان أحد الملفات وليس الملف الرئيسي الوحيد.. هذا يقودنا إلى سؤال حول الملفات الأخرى وهل كان الشرق الأوسط ضمنها؟
بالمقبل، في أمريكا، يرون أن كل لقاء لترامب مع بوتين هو هزيمة للأول وانتصار للثاني، ويتم التعبير عن ذلك بصورة مباشرة حادة دفعت ترامب في بعض الأحيان للقول بأنه لو جلب للأمريكيين نصف روسيا لن تتغير النظرة وسيعتبرونه خاسراً بمواجهة بوتين، وهذا ما جاء في أغلب الوسائل الأمريكية قبل وبعد القمة.
لقد اعتبرت شبكة ABC News» » أن بوتين غادر ألاسكا منتصراً بعد أن غلب رئيسياً أمريكياً آخر، لم يتمكن من الاستحصال منه على أي تنازلات سوى التلميح لضرورة ضمان أمن أوكرانيا. وتابعت: كانت القمة الأمريكية- الروسية مفيدة لبوتين، إذ أعادته إلى طاولة نقاش القوى العالمية الكبرى، وأصبحت فرصة له للبحث عن فرص اقتصادية مع الولايات المتحدة، بينما لم يقدم بوتين تنازلاً واحداً لترامب سوى التلميح العابر إلى ضرورة ضمان أمن أوكرانيا.
وأشارت إلى أن حضور الممثل الخاص للرئيس الروسي للاستثمار والتعاون الاقتصادي مع الدول الأجنبية، كيريل دميترييف، في القمة، كان يحمل دلالة واضحة. وأكدت أن وجوده في ألاسكا في الصف الأمامي يظهر أن الروس اعتبروا الاجتماع في المقام الأول فرصة تجارية، وليس مفاوضات بشأن أوكرانيا.
وكان ترامب نفسه أقر بأنه لم يتم الاتفاق مع بوتين على النقاط المهمة بشأن أوكرانيا، مكتفياً بالحديث عن «فرصة جيدة» للتوصل إلى تفاهم. وقال بعد انتهاء القمة: لا يزال هناك خلاف حول بعض بنود الاتفاق المتعلق بأوكرانيا، لكن هناك فرص جيدة للتوصل إلى تفاهم.
وفيما احتفت روسيا بقمة أخرى محتملة (قريبة جداً) بين ترامب وبوتين، على أراضيها، لم تتطرق الأوساط الأمريكية، باستثناء ترامب، لهذه المسألة، في وقت تستبعد فيه روسيا عقد قمة ثلاثة تجمع بوتين وترامب وزيلينسكي، مشيرة إلى أنه لم يتم التطرق لمثل هذه القمة، علماً أن ترامب أوحى خلال محادثاته مع زيلينسكي وقادة الناتو- التي أعقبت انتهاء قمة آلاسكا- بأنه تم بحث هذه القمة الثلاثية، لكنه بالمقابل لم يعرض تفاصيل.
المفارقة.. في موسكو يرون كل لقاء مع ترامب انتصاراً للدبلوماسية الروسية وفي واشنطن يعتبرون كل لقاء مع بوتين هزيمة.. وعليه يرون أن بوتين غادر آلاسكا منتصراً بعد أن غلب رئيساً أمريكياً آخر
بكل الأحول، لا نعتقد أننا سننتظر طويلاً لكشف ما جرى في قمة آلاسكا، سواء في مباحثاتها الرئيسية أو الجانبية، حيث إن مجريات الأيام القليلة المقبلة ستضعنا حتماً أمام مجرياتها، وحيث ترامب مضطر حكماً للكشف عنها، ليس بالأقوال فقط، فقد اعتدنا منه أن يمتدح كل ما يفعل، ولكن بالأفعال. هذه الأفعال وتداعياتها ستكشف لنا الكثير، وسيكون لقاؤه مع زيلينيسكي- بعد غدٍ الاثنين- البداية لمعرفة أو توقع مجريات قمة آلاسكا، فكل شيء سيتم ترجمته تباعاً من أوكرانيا إلى الصين وصولاً إلى الشرق الأوسط.