الحرية- إلهام عثمان:
مع تسارع وتيرة الابتكار التي تتجاوز فيه التكنولوجيا حدود الخيال والزمان والمكان، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوةٍ قادرةٍ على إعادة تشكيل وبلورة فهمنا للواقع، ومن بين أحدث هذه الابتكارات التي قد لا تصدق، تظهر تقنية “إحياء افتراضي للشخصيات الراحلة”، التي لا تقتصر على كونها مجرد أداة ترفيهية، بل تحمل في طياتها إمكانات ثورية.
فنجد أن بعضها إبداعي والآخر شديد الحساسية والجدل، فهل نحن على أعتاب عصرٍ جديدٍ نسمع فيه أصوات من رحلوا عنا وكأنهم أمامنا، أم إننا ندخل منطقةً رماديةً تُثير تساؤلاتٍ أخلاقيةً عميقة ومخيفة ربما؟
أصداء عتيقة تُعانق المستقبل
خبير السوشيال ميديا محمد حبش محمد أوضح من خلال حديث مع صحيفتنا “الحرية”، أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تقدم آفاقاً واعدةً للحفاظ على تراثنا الثقافي والإنساني، وإعادة إحياء ما قد يندثر مع مرور الزمن.
إحياء التراث
ويبين محمد قائلاً: تخيل أن تطأ قدماك متحفاً رقمياً تفاعلياً، وتسمع شكسبير يقرأ مسرحيته بصوته الأصيل، أو أن ترى أحمد شوقي يلقي قصيدةً بمفرداته الأصلية، وذلك بفضل تقنيات الواقع المعزز (AR)، والتي من خلالها يمكن لهذه الشخصيات التاريخية أن “تحيا” أمام الزائرين، مقدمةً تجربةً تعليميةً غامرةً لا تُنسى.
محمد: بينما نُبهر بهذه الإمكانات لا بد من أن نتوقف عند المسؤولية الأخلاقية والقانونية المصاحبة لها لضمان استخدامها بما يخدم الإنسانية
لغات تتكلم من جديد
وهنا يثيرنا الفضول ونطرح تساؤلاً يرغب به معظمنا لنسأل! هل يمكننا أن نسمع نطق لغاتٍ قديمةٍ اندثرت، مثل الهيروغليفية أو الآرامية؟ وهنا يجيب محمد..نعم، يُمكن للذكاء الاصطناعي، من خلال تحليل النصوص التاريخية، أن يُعيد بناء نطق هذه اللغات، مانحاً إياها صوتاً وحياةً جديدة.
حوار مع الراحلين
وبين العلم والعاطفة، تتجاوز هذه التقنيات حدود التراث لتلامس أعمق مشاعرنا الإنسانية، وتفتح الباب أمام تواصلٍ شخصيٍ مع من رحلوا عنا، فقد يكونوا أحد المشاهير أو أحد أفراد العائلة، ليشرح محمد لافتاً إلى أن هناك بعض الشركات الناشئة قامت بتطوير تقنياتٍ تسمح بتسجيل صوت الشخص في حياته، ثم استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء ردودٍ صوتيةٍ على أسئلة الأحياء بعد وفاته، فمثلاً: تخيل أن “يتحدث” جدك الراحل إليك في عيد ميلادك عبر ذكاء اصطناعي مُدرَّبٍ على صوته وأسلوبه ليكون بذلك قد سجل رسالة خالدة لم تعشها من قبل.
مضيفاً: أنه في حال توفرت تسجيلات كافية، يمكن للذكاء الاصطناعي توليد حواراتٍ جديدةٍ بين الأحياء والأموات، مما قد يقدم عزاء أو إجابات لم تكن ممكنة في السابق، لتنشأ بذلك حوارات عائلية مُتجددة.
تطبيقات قانونية وتاريخية
كما بين محمد أن إمكانات هذه التقنيات تمتد لتشمل مجالات قانونية وتاريخية حساسة لتكون كذاكرة لا تموت، ففي قضايا الميراث، على سبيل المثال، قد يستخدم صوت المتوفى (إذا كان مسجلاً) للإدلاء بشهادة حول نيته في الميراث ولوصيه، ما يقدم دليلاً جديداً في الإجراءات القانونية ليمثل بذلك على أنه شهادة رقمية في المحاكم.
أما توثيق الروايات شفوية، ووفق رأي محمد أنه يمكن إعادة سرد تاريخ مجتمعات بأكملها، ومن خلال أصوات كبار السن الذين رحلوا، مثل روايات النكبة الفلسطينية أو تجارب الحرب العالمية، ما يحفظ ذاكرة الأجيال.
تعليم وتدريب بلا حدود
هذا بالإضافة لأن هذه التقنيات تقدم أدوات تعليمية وتدريبية مبتكرة، هذا ما بينه محمد، فإن فكرة محاكاة شخصيات تاريخية والتي كانت مستحيلة، قد أصبحت ممكنة، فقد “يتحاور” طلاب التاريخ مع ابن خلدون عن نظرياته، أو يسألون ماري كوري عن اكتشافاتها، أو أفلاطون أو فروبل وغيرهم، ما يجعل عملية التعلم أكثر تفاعلية وتشويقاً فيتعلموا بذلك دروساً من الماضي.
كما يمكن أن تساعد تلك التقنيات على التدريب النفسي المُعمّق، وذلك عن طريق استخدام محاكاة حوارات مع “مرضى” راحلين، وذلك بهدف فهم اضطرابات نفسية محددة، ما يُقدم تدريباً عملياً للأطباء النفسيين.
وختم محمد: إن تقنيات إحياء الشخصيات الراحلة عبر الذكاء الاصطناعي تُقدم لنا لمحة عن مستقبل قد يُعيد تشكيل ذاكرتنا الجماعية والفردية، وبينما نُبهر بهذه الإمكانات، لا بد من أن نتوقف عند المسؤولية الأخلاقية والقانونية المصاحبة لها، وذلك لضمان استخدامها بما يخدم الإنسانية ويحترم خصوصية الأفراد وكرامة الموتى.