الحرية- وديع الشماس:
تمر سوريا اليوم بمرحلة مفصلية من تاريخها الحديث، بعد أكثر من عقد من الأزمات المتراكمة والحروب المدمرة، يجد السوريون أنفسهم أمام سؤال مصيري: كيف يمكن إعادة بناء الوطن على أسس راسخة تمنع تكرار مآسي الماضي؟
الإجابة لا يمكن أن تكون مجرد شعارات فضفاضة، بل رؤية متكاملة تنطلق من واقعنا وتطل إلى المستقبل، هذه الرؤية تقوم على عمودين رئيسيين: العدالة الاجتماعية وإعمار الحجر والبشر، فهما ليسا مسارين متوازيين بل متداخلان؛ إذ لا يمكن لأي مشروع إعمار أن ينجح من دون عدالة تضمن مشاركة الجميع، ولا يمكن للعدالة أن تترسخ في مجتمع منكوب بلا إعادة إعمار حقيقية للإنسان والمكان.
العدالة الاجتماعية
العدالة الاجتماعية هي المعيار الذي تقاس به قوة الدول واستقرارها، فهي الضامن لتوزيع الثروات بعدالة، وفتح الفرص بالتساوي أمام جميع المواطنين، وتكريس سيادة القانون بعيدًا عن المحسوبيات أو التمييز.
مرتكزات العدالة الاجتماعية في سوريا الجديدة:
1. تكافؤ الفرص: أن يتمكن ابن الريف كما ابن المدينة من الحصول على تعليم جيد وخدمات صحية وفرص عمل متكافئة.
2. الرعاية الاجتماعية: توفير شبكة أمان للفئات الأكثر هشاشة، مثل الأسر الفقيرة وذوي الإعاقة وضحايا الحرب، بما يضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم.
3. التوزيع العادل للموارد: فلا تُحرم منطقة من حقها في التنمية بسبب موقعها الجغرافي أو انتمائها الاجتماعي أو السياسي.
4. سيادة القانون: بحيث يخضع الجميع، من أبسط مواطن إلى أعلى مسؤول، لنفس المعايير القانونية من دون استثناء.
5. عدالة الأجور والعمل: بما يكفل للعامل ثمرة جهده ويمنع الفجوة الطبقية من التوسع.
فالعدالة الاجتماعية ليست فقط ضماناً للاستقرار، بل أيضاً محفز للإنتاج.
حين يشعر المواطن أن جهده لن يضيع وأن حقوقه محفوظة، يتحول إلى قوة منتجة تسهم في تنمية المجتمع.
إعمار الحجر
سوريا اليوم بحاجة ملحة لإعادة بناء مدنها وقراها المدمرة، لكن الإعمار لا يعني إعادة ما كان فقط، بل التأسيس لنهضة عمرانية واقتصادية حديثة.
أولويات إعمار الحجر
1. المساكن والمناطق المنكوبة: إعادة إعمارها بطريقة عصرية تنظم النمو العمراني وتراعي احتياجات السكان من خدمات عامة ومساحات خضراء.
2. البنية التحتية: تحديث شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والطرق والجسور والاتصالات، لتكون مواكبة للمعايير العالمية.
3. إحياء الاقتصاد الوطني: عبر تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي، وتقديم التسهيلات للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد.
4. الأمن الغذائي: تطوير قطاع الزراعة والصناعات الغذائية لضمان اكتفاء ذاتي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
5. الطاقات المتجددة: استثمار الطاقة الشمسية والرياح لتوفير مصادر بديلة، وتخفيض التكاليف وتعزيز الاستدامة.
إن إعمار الحجر ليس عملية هندسية فحسب، بل مشروع وطني يعيد للناس الثقة والانتماء، ويجعلهم شركاء في بناء وطن عصري قادر على المنافسة.
إعمار البشر
الإنسان هو الهدف والغاية من كل عملية إعمار. فلا قيمة لمبانٍ حديثة إذا كان الإنسان الذي يسكنها مثقلاً بالفقر أو الجهل أو الإحباط.
متطلبات إعمار البشر:
1. إصلاح التعليم: تطوير المناهج وأساليب التدريس لتواكب العصر وتمنح الأجيال القادمة المهارات العلمية والتقنية التي يحتاجها سوق العمل.
2. التدريب المهني: توفير برامج تأهيل للشباب لتمكينهم من دخول سوق العمل بكفاءة، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقات المتجددة والصناعات الناشئة.
3. الصحة الجسدية والنفسية: إنشاء مراكز لدعم الصحة النفسية لمعالجة آثار الحرب، إلى جانب تعزيز البنية الصحية لضمان خدمات طبية للجميع.
4. تمكين المرأة: باعتبارها شريكاً كاملاً في عملية البناء، عبر مشاركتها الفاعلة في الاقتصاد وصنع القرار والمجتمع المدني.
5. تعزيز ثقافة المواطنة: من خلال غرس قيم المشاركة والمسؤولية والانتماء في المجتمع، بما يعيد اللحمة الوطنية ويمنع الانقسام.
إعمار البشر هو الذي يعيد للإنسان السوري ثقته بنفسه وبمستقبله، ويحوّله من متلقٍ للمعونات إلى فاعل ومبدع في عملية البناء الوطني.
أخيراً: سوريا من جديد
إن العدالة الاجتماعية وإعمار الحجر والبشر يشكلان معاً الأساس الصلب لبناء سوريا الحديثة.
فالعدالة تضمن الإنصاف والمشاركة، والإعمار يعيد الحياة للمدن والإنسان.
بدون عدالة لن ينهض الإعمار، وبدون إعمار لن تصمد العدالة.
اليوم، يقف السوريون أمام فرصة تاريخية لصياغة مستقبل جديد، مستقبل يتجاوز الماضي ويؤسس لدولة قوية، عادلة، حديثة.
سوريا تُبنى بالإنسان ولأجل الإنسان، على أساس العدل والتنمية معاً.