«المونة».. طقس سوري قديم يواجه واقعاً اقتصادياً قاسياً

مدة القراءة 3 دقيقة/دقائق

الحرية- نهلة أبو تك:

تتراجع “المونة” السورية، أحد أعرق طقوس الحياة المنزلية، عن حضورها المعتاد داخل البيوت، بعد أن كانت لعقود طويلة رمزاً للاكتفاء الذاتي، وتجسيداً لثقافة الإنتاج المنزلي، وروح التعاون بين النساء والجيران، تحت ظلال موسم تملؤه رائحة الفليفلة، ودبس البندورة، وصوت المرطبانات وهي تُغلق بعناية استعداداً للشتاء.

المؤونة قديماً.. وفرة وقت وتعاون

حتى سنوات قليلة مضت، كانت المؤونة حدثاً موسمياً بارزاً في حياة الأسر السورية، يبدأ مع نهاية الصيف استعداداً لفصل الشتاء.

المواد الأولية كانت متوفرة بأسعار مقبولة، وغالبية النساء غير عاملات، ما أتاح لهن الوقت والجهد لتحضير عشرات الأصناف من (المونة)، بدءاً من المكدوس والمربيات ودبس الفليفلة… ووصولاً إلى الأجبان واللبنة المجففة.

تقول السيدة أم مهند (58 عاماً)، ربة منزل: «كنا نُحضّر كل شيء في البيت… نشتري كميات كبيرة من البندورة، نغليها ونعبّئها في مرطبانات، ونجتمع مع الجارات لتجهيز الفليفلة، نقطع الأجبان ونخزنها بزيت الزيتون. كانت الأجواء مليئة بالحياة والتعاون، كل بيت يفتح أبوابه للآخر».

وتتابع: «اليوم تغيّر كل شيء. بالكاد نشتري حاجتنا اليومية، والمونة التي كانت تُحضّر بكميات وفيرة، صارت رفاهية ما لا نقدر عليها. بدل ما نُخزّن للشتاء، أصبحنا نشتري بالأوقية حسب القدرة»

واقع اقتصادي مرير.. والمؤونة تتحوّل إلى عبء

ما كان يوماً طقساً سنوياً لا غنى عنه، بات اليوم عبئاً ثقيلاً على الأسر، لاسيما في ظل غلاء المعيشة وتزامن موسم (المونة) مع افتتاح المدارس وتكاليفها الباهظة.

تقول عبير حمدان (37 عاماً)، موظفة وأم لثلاثة أطفال: “أنا أعمل بدوام كامل، ووقتي لا يسمح بتحضير المؤونة. فضلاً عن أن الأسعار مرتفعة! كيلو الفليفلة بـ10 آلاف ليرة، تنكة الزيت بأكثر من مليون… هذه السنة اشترينا كمية قليلة من المكدوس الجاهز، واستغنينا عن أصناف عديدة من المونة”.

رأي خبيرة: تغيّر ثقافي وغذائي

من جانبها، ترى الباحثة الاجتماعية راميا صبيرة أن ما يحصل لا يُعدّ تراجعاً اقتصادياً فقط، بل هو خسارة ثقافية واجتماعية حقيقية.

وتوضح: المؤونة كانت تعبيراً عن الاكتفاء الذاتي، وعن البيت كخلية إنتاجية. اليوم، مع دخول النساء إلى سوق العمل، وارتفاع أسعار كل مكوّناتها تقريباً، من الخضار والزيوت والمكسرات، إلى الأجبان والحبوب، تخلّت الكثير من الأسر عن صناعتها المنزلية، واعتمدت على المنتجات الجاهزة”.

وتتابع:

“خسارتنا لا تقتصر على النكهة وجودة المأكولات، بل تمتد لتشمل القيم الاجتماعية التي كانت تُبنى خلال موسم المؤونة… من العمل الجماعي، إلى الروابط بين الأجيال”.

محاولات فردية… وتشبث بالتراث

رغم التراجع الكبير، لا تزال بعض الأسر تحاول الحفاظ على طقس المؤونة، ولو بشكل رمزي.

في ظل الغلاء، اتجهت بعض العائلات إلى الزراعة المنزلية فوق الأسطح لتأمين الحد الأدنى من الخضروات، بينما فضّل آخرون الشراء الجماعي من المزارعين لتقليل التكاليف.

لم تعد المؤونة كما كانت، لكنها لم تختفِ تماماً.

فبين زمن الوفرة وزمن الغلاء، تحاول الأسر السورية أن تتكيّف مع الواقع، دون أن تتخلى كلياً عن إرث غذائي وثقافي عريق.

يبقى الحنين إلى نكهتها وروحها حاضراً، في الذاكرة، وفي الرغبة بِالاحتفاظ بطقوس صنعت جزءاً كبيراً من دفء البيت السوري.

Leave a Comment
آخر الأخبار