الحرية- لبنى شاكر:
حدثتْ فعلاً؛ هذا سببٌ أوّل يجعل من رواية “بخيتة” للكاتبة الفرنسية فيرونيك أولمي، ترجمة آلاء أبو زرار، مُذهلة، فهي لا تقف فقط عند حكاية امرأةٍ عاشت العبودية والعنصرية، واختبرت روحها وجسدها أشكالاً وأساليب متنوّعة من الوحشية، مارسها البشر تجاه بعضهم منذ الأزل، بل تُوثّق أيضاً أحداثاً تاريخية وشخصياتٍ حقيقية سياسية ودينية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في السودان وإيطاليا على وجه الخصوص، وفي عدة دول كانت جزءاً من الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تتخذ الرواية من العبودية خلفيةً مركزيةً لكنها لا تقع في فخ التقريرية أو الخطابة السياسية
تجربة وجودية
تتخذ الرواية من الرق، خلفيةً مركزية، لكنها لا تقع في فخ التقريرية أو الخطابة السياسية، بل تنسج نصاً أدبيّاً بالغ الحساسية، مكتوباً بلغة رصينة، شفافة وعميقة في آن، تجعل القارئ يعايش الألم لا كخبر بعيد، بل كتجربة وجودية تلامسه في الصميم، فهي ليست فقط سيرة إنسانة، بل سيرة كل أولئك الذين نُفيت أرواحهم من ذواتهم، تحت وطأة الاستعمار والسخرة والتبشير الديني القسري. وإن كان اللافت في “بخيتة” تجاوزها فكرة الحديث عن الاقتلاع من الأرض، لتصبح بحثاً عن الذات وسط خراب الهوية، وكما تحكي عن نفسها “حكاية امرأة أُجبرت على أن تتقمص أسماءً وثقافاتٍ لا تُشبهها”.
مآسٍ مستمرة
تُختطف “بخيتة” من قريتها أولغوسا في إقليم دارفور عام 1869، لتصبح عبدة في السابعة من عمرها، وسيكون عليها مراراً القفز والركض وإظهار أسنانها وسلامة جسدها، حتى يطمئن مالكوها الجدد إلى إمكانية الاستفادة منها، وخلال مسيرٍ طويل ستكون جزءاً من مآسٍ لا تعد، سترى أمهاتٍ وفتياتٍ يُغتصبن ويُرمين، وأخرياتٍ توضع السلاسل في أعناقهن وأرجلهن، ورجالاً يموتون جوعاً وطعناً وجَلداً، وصبياناً يُباعون ويُشترون قبل أن يعرفوا المشي والكلام، حتى إنها ستكون موضع تجربة لسيدٍ شاب، يريد أن يتزوج، وستكون أيضاً مكان قردٍ، يُصدر أصواتاً غريبة وينحني ويقفز، تسليةً للأسياد وضيوفهم.
إحدى أعظم فضائل هذا العمل تكمن في أنه لا يُقدّم “بخيتة” كضحية فقط، بل يرسم ملامح نضوجها الداخلي، وكيف أنها، رغم هشاشة الجسد، لم تنهزم أمام محاولات الترويض على اختلافها، وأبرزها ما عايشته في دير إيطالي، حيث تُجبر على اعتناق الكاثوليكية، وتُمنح اسماً جديداً، لتبدو وكأنها تحيا حياةً ثانية، لكنها تحت جلد تلك الراهبة الصامتة، تُخفي الطفلة التي كانتها، تجري بين الحقول الإفريقية، وتصلي لإلهٍ لم يعد لها الحق في مناداته. وبين الصمت والطاعة، تظل الذاكرة فاعلة، تنبض بحقيقة راسخة لا يقوى الزمن ولا السلطان على محوها.
تتجاوز الرواية فكرة الحديث عن الاقتلاع من الأرض، لتصبح بحثاً عن الذات وسط خراب الهوية
قدر الاغتراب
الرواية غنية بشخصيات ثانوية مرسومة بعناية “الراهبات، الجنود، التجار، القساوسة”، والذين لا يظهرون ككائنات مسطحة، بل بشر يحملون تناقضاتهم، ويعكسون بنى السلطة والدين والاستعمار التي تحكم مصير “بخيتة”. وهو ما ينسحب على المكان أيضاً، وهو يلعب دوراً مركزياً في الرواية، ليس بوصفه فضاءً جغرافياً فقط، بل مرآة لتحولات الشخصية، من صحراء دارفور إلى أسواق العبيد ثم قلاع إيطاليا وأديرتها. ومع تبدل الأمكنة باستمرار، يظل الاغتراب ثابتاً، كأنه قدر لا فكاك منه، ليكشف في الوقت نفسه عن هشاشة الحدود الثقافية والدينية، فـ “بخيتة”، في نهاية الأمر، تظل هي هي، رغم كل محاولات الطمس والتشكيل مُجدداً.
ومع تنقلها بين البيوت والقصور، تسرد لنا الكاتبة كيف تحتم عليها مساعدة سيداتٍ في ارتداء ثيابهن، شرط ألا تمسهن، ولأن الأمر غير قابل للتطبيق، ستُصفع وتُجلد وتجوع، إلى أن ينتهي بها الحال بين يدي واشمة، تحفر جسدها بالسكاكين والإبر، لترسم شيئاً ما على جسدها الأسود، ثم تُملأ الحفر بالصباغ والملح. ولا ينتهي الأمر هنا، لأن العبدة السوداء ستُسمى بالشيطان والموت رغم انتقالها إلى بلدانٍ ترفض العبودية، وستسمع شتائم وتعاويذ وصراخ، بمجرد رؤية وجهها الأسود، كما ستبقى حتى بعد نيلها حريتها والتحاقها بخدمة الكنيسة، مثار انبهار وتعجّب وتكهنات، الكل يرغب بتحسس وجهها ويديها، والاطمئنان إلى أنه لن يتسخ أو يُمسخ بسببها، ومن المؤلم الذي ستحكي به “بخيتة” لاحقاً حين تبدأ الكنيسة بكتابة قصة حياتها، أن المسؤولة عن التنظيف سترفض دائماً تبديل الشراشف في غرفتها.
“بخيتة” هو الاسم الذي يُطلقه الخاطفون الأوائل على الطفلة التي لن تتذكر اسمها الحقيقي أبداً
نجاة وتمرد
بقي أن نقول: “بخيتة” هو الاسم الذي يُطلقه الخاطفون الأوائل على الطفلة التي لن تتذكر اسمها الحقيقي أبداً، ومعناه المحظوظة الناجية من الموت، وبعد معاناةٍ طويلة وأسماء عديدة تُطلق عليها “جيوزيفا، مارغريتا، فورتومانا، ماريا، جيوزيبينا بخيتة”، أعلنها البابا يوحنا بولس الثانى طوباويةً عام 1992، ثم قديسةً عام 2000، لتكون القديسة السودانية الأولى، وهي المحطة الأخيرة التي تنقلها لنا الكاتبة، بعد مشوار طويل تتشابك فيه خطوط الزمن، وتتعقد الوقائع، لتمنح البطلة مساحةً للنمو، للتمرد، ولطرح الأسئلة الكبرى حول الإيمان، والغفران، والانتماء، والحب، بحيث لا نتعاطف مع سيرتها المأساوية فحسب، بل نتأمل قدرتها على الاستمرار في الحياة، رغم كل ما سُلب منها.
الرواية صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن المشروع الوطني للترجمة.