(سفينة نون) لريم حبيب.. العالقة في طمي الذكورة ووحل الحرب

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:

منذ العتبة الأولى لروايتها (سفينة نون)، وأقصد بذلك (العنوان) تضع ريم حبيب قارئها في مناخات أكثر من تأويلٍ، لاسيما عندما تضع أبواباً من الرموز لبيوت هذه التأويلات، ما إن تفتحها حتى تفاجئك لغةٌ عالية الوصف تمخرُ في يمِّ المجاز التي توسّع من العبارة مهما ضاقت.. ذلك أن (المعنى) الذي تسعى إليه الكاتبة تصيغهُ في صورٍ مختلفة ومتعددة لتؤكد مقولتها، أو قل صرختها الصادمة في خواتيم الحكايات التي تسردها عن مجموعة من النساء؛ وهي إن سفينتهنّ التي بنتها لتحميهنّ من الطوفان، ومن ثمّ الغرق الذي يُحيط بهنّ؛ بقيت عالقة في طمي الذكورة العاتية ووحل الحرب الذي أحاط بها من جهاتها الست!!.. فريم حبيب، ومنذ أوّل السرد، حيث تبدأهُ بمقولة: “بعد أن تمر العاصفة؛ لا نحصي من نجا، وإنما نُحصي الخسائر..”

عن العنوان

وإذا ماعدنا إلى عنوان الرواية (سفينة نون)، ففي تفكيكه نعود لمرجعيات مختلفة من قصص دينية ولغوية ومجتمعية.. ففي الإشارة الأولى تحضر (سفينة نوح)، من المثولوجيا والحكاية الدينية الشهيرة، عندما أوعز للنبي نوح ببناء سفينته لينقذ الأخيار في هذا العالم، وقد امتلأت الأرض شراً وفجوراً وحان الطوفان الذي سيقتص من الأشرار والمفسدين في الأرض، ومن ثمّ كانت السفينة سفينة نجاة كثوابٍ للصالحين.. الروائية حبيب بدلت حرف الحاء نوناً، للإشارة إلى الذين تسعى لنجاتهم، وهم من النساء المعذبات في هذه الأرض، والنون هنا كإشارة لنون النساء، أو كما اصطلح على تسميتها لغوياً “نون النسوة”، غير إن الكاتبة ليست (نوحاً)، ولأنها ليست كذلك بقيت السفينة عالقة، وراسية كالجبال في الغرق وفي الوحل، وليس أي وحل؛ إنها وحول الحروب التي يشعلها الذكور لتكون النساء أولى ضحاياها، والأكثر خسارة من نتائجها!!

عن ماجدة ومريم

المفاجأة أن الراوية، أو الساردة لقصص هؤلاء النسوة، ليست هي من تسعى لبناء سفينة النجاة، أو (سفينة نون)، – ربما كما كان متوقعاً- فـ(ماجدة) التي ابتليت بالحرب منذ نشوبها حين دخلت ابنتها في غيبوبة طويلة، على أثر تفجيرٍ في إحدى ساحات المدينة، الأمر الذي اضطرها لأن تترك عملها في التدريس وتجلس بجانبها على أمل أن تصحو يوماً.. فيما بقية النساء اللواتي وقعن في عفن الحرب واللواتي كن يسعين إلى (التطهر) مما علق بهنّ من الحرب وصناعها بتقديم التكاليف المالية لـ(شمس) ابنة ماجدة الفاقدة لوعيها.. ماجدة العارفة بكل تفاصيل الحكايات وحيثياتها لكل نساء السفينة المشتهاة، والتي كانت تجد لهنّ الأعذار والظروف القاسية التي أجبرتهن لسلوك كل تلك الأزقة الضيقة والموحلة، وهي أيضاً من ستضع حدّاً لكلِّ هذه (اللاجدوى)، في خاتمة الرواية، وقد وصل الطمي حتى الرؤوس، ولمستوى فاجر.. أو ربما كان ثمة شخصية أخرى قد تقع عليها مهمة السرد، وهي (مريم) الطبيبة النفسية التي تعرف جميع النسوة على بعضهنّ في عيادتها، وهي أيضاً كانت عارفة ببواطن وجوانيات تلك النساء وعذابتهن، والتي كانت تحاول علاجهنّ..

عن الساردة

غير إنّ الساردة – وهنا لعبة فنية متقنة من الكاتبة – أعطت مهمة السرد لشخصية، جاءت بها من المتن إلى الهامش لتكون الساردة العليمة بخبايا النساء والتي ستسرد قصصهنّ من وجهة نظرها، وهي التي تعرفت عليهنّ في عيادة الدكتورة مريم خلال عملها عندها في إدارة العيادة، وهي الحاملة لقصص نساء أخريات من عائلتها، أو عن نساء تعرفت على حكايتهن حيث تسردها، وكأن محنة المرأة حالة دهرية تتكرر بصورٍ مختلفة مع كل جيل..
هذه الساردة التي نتعرف على اسمها والرواية في خواتيمها؛ هي (ماريا)، وتحديداً في الصفحة (114)، وأظنه جاء مقصوداً لتبقى الحالة شاملة دون تخصيص، ماريّا التي تجد نفسها في عيادة مريم تتلمس عندها أن تُضيء العتمة في داخلها والتي حجبت عنها كل السبل.. فعند مريم تلتقي ماجدة التي كانت تريدُ حلاً أو نهاية لغيبوبة ابنتها شمس، ورهف التي كانت مستنزفة وتعاني من تبدد الشخصية، وهنادي التي كادت تقتلها الوحدة بعد موت جدتّها، وسنا التي تتأرجح على الحافة دوماً.. حيث الجميع يتوسلن مريم التوازن الداخلي لأعماقهن التي قصفت..
تبدأ الساردة بحديث ذكرى عن قتل والدها لشقيقته متساوقة مع وصف المكان، وإسقاط ظروف العمة المقتولة على حياة الرواية التي تعيش في الحيز الضيق من هذه الحياة.. “قضيتُ طفولتي وأنا أتسلق النوافذ لأرتمي في لجة الشارع المزدحم…ص7″، في إشارة لعشقها للحياة، غير إن الشارع كان لها بالمرصاد، ولم يكن أقل قسوة من لجة العائلة..

عن الشخصيّات

إذاً.. تتعدد الشخصيّات في (سفينة نون)، شخصيّات يعشن القهر على أكثر من مستوى، ولعلّ المستوى الأشد وطأة، محنة الحرب، والتي أولى ضحاياها والأشدّ خسارة فيها هنّ النساء، ذلك أنّ الأذى يأتيهن من كلٍّ الجهات من الأسرة والشارع، والمجتمع، ومن ثمّ سيكون الفقد مضاعفاً ومهولاً، ومن هنا أيضاً ندرك كثرة الحكايات وتنوّع الخسارات التي تقضّ مضاجعهنّ، وربما

من هنا نتفهّم تعدد الشخصيّات النسوية في الرواية، وانحسار ظهور الشخصيّات الذكورية إلا بما تسببه، أو كانت سبباً للجحيم الذي يقع على النساء، وهذا كاد أن يذهب بالرواية إلى (الجندر)، قبل أن تجد (قاسم) وتحولات الحكاية عنه، والذي كان يُشبه في خساراته، خسارات تلك النسوة في زمن الحرب، وزمن توحش المجتمعات خلالها.. فـ”حكايا النساء في هذي البلاد تدور، والزمن في الحرب لا يمضي لا ينحسر، فقط يهوي، أو يضيع..ص23″
في هذا الزمن الملتبس، حاولت ماريا أن تجد لـ(نسائها) قارب نجاة، تلمست خيوطه في الموسيقا، والإبداع، وربما في الحكاية، فما كان يُشغلها ليس الحقيقة، بل الحكاية، ذلك أنّ الحكاية عارية، فيما الحقيقة مدورة.. و”لذة الصوت، هو أول اهتزاز عرفه الإنسان، وفرّغ فيه كلّ طاقته الحبيسة، بعد ذلك “اختبرنا الغناء؛ إنه يُذيب حوائط الكلمات بين القلب والشفتين (…) أقنعتنا مريم بفكرة الغناء، كانت تقول: افعلن ذلك في الحمام، وبعد سجال اتفقنا على تسمية الفرقة سفينة نون ص17”.. ومن ثمّ كان اللجوء على المخيلة للسفر بين الحلم واليقظة وبين الوهم واللذة.. غير إنّ ليل هذي البلاد طويل، وحين يطول لا تعود تنفع معه الحكاية، ولا تعود الموسيقا تُسمن من جوع..

عن اللغة

أما عن لغة السرد التي اعتمدتها الروائية على لسان ساردتها، التي تروي بضمير الأنا، ورغم إنها تروي حكايتها الخاصة، غير إنها تُشبكها بحكايات لعشرات النساء بحيث توحي للمتلقي بالتماهي بين الساردة الراوية والروائية كنشدان للصدق الفني الروائي، الأمر الذي يجعل من الروائية وكأنها تتحدث للمتلقي وتخبره كعارفة وشاهدة على هذه الحكايا لاسيما مع بلاغة وصفية كانت على مستويين داخلي جواني يسرد الحالة الداخلية للشخصية، وتبرز أعماقها وكلّ ما تُعانيه، ومن المستوى الخارجي من وصف المكان الذي تتواجد فيه كحاضن لكلّ حالات ذلك “الكائن” المقهور بجوانياته وكخلفية مشهدية تتماهى من يعتلج في الصدور.. والحقُّ يُقال؛ كانت الفعالية الفنية للروائية، أو اللعبة البلاغية تكمن هنا، حيث أبعدت الأحداث عن التسجيلية، لتذهب بنا إلى عملٍ فني من النوع الفاخر..

اقتباسات

“وأنا كبرعمٍ مقطوع من شجرته، يطفو فوق ساقية، يصلني صوت أبي مُندفعاً هائجاً (…) لم يكن المجلس سوى ذلك، أبي يجلس على أريكة ذات قوائم مرتفعة، يرتدي سترة عسكرية على بنطال بيجامة رمادي قاتم، يخرج من جيبه علبةً مليئة بالتبغ وورق سجائر، وبيد واحدة لفّ سيجارته..”، “في ذاكرتي جروحٌ كثيرةٌ عن بيوت تعيش على أطراف الهاوية، لا نبض لها إلا ضجيج نفاياتها.. شمسها خيطٌ واهنٌ، وليلها ممزقٌ بين ظنًّ وإثم..”، “أتذكر حين التقيت سنا في عيادة مريم لأول مرة؛ كانت مضطربة حائرة (…) وجهها يُخبرك بأنها على استعداد لأن تفتعل مشاجرة..ص38”..
نُشير أخيراً إلى أنّ (سفينة نون) الصادرة عن دار التكوين بدمشق؛ تأتي خامسة روايات الأديبة ريم حبيب بعد: (أكثر من امرأة – دار الحوار، سفاح الذكر – دار أطلس، كيف يموت الأقحوان – عين الزهور، احتباس حراري – روافد مصر، المخدع – خطوط الأردن).

Leave a Comment
آخر الأخبار