الحرية: أحمد عساف:
يطلُّ علينا الناقد محمد جبير بعملٍ استثنائي بعنوان “الصدمة السردية: متوالية التحويل من السكون إلى الحركة” الذي صدر قبل أيام في القاهرة.
هذا الإصدار الذي اشتغل عليه مؤلفه لمدة ثلاث سنوات كاملة، يمثل الكتاب السابع عشر في مسيرة جبير النقدية، وهو ليس مجرد إضافة كمية إلى المكتبة العربية، بل يشكل قفزة نوعية في فهم آليات التحول داخل النص السردي.
يتحدث كتاب الصدمة السردية عن السرد في الرواية، وعن الصدمة السردية. يقول: “لابد لنا أولاً من الإقرار بأننا نعيش في عصر الصدمة على المستوى النفسي أو الفكري، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، تتضح صورة الصدمة السردية من خلال رصد فجوة المعرفة بين المجتمعات المتخلفة والمتقدمة. ونكتشف في قراءة المتغيرات للعالم الإنساني مجتمعات ارتضت العيش في حال السكون، وتواءمت معه، وأخرى لا تقبل إلا أن تعيش فاعليتها الإنسانية في التغيير”. ص 10
فكرة الصدمة
(الصدمة السردية) بحد ذاتها، فكرة مثيرة للاهتمام، حيث تحاول ربط التقنيات السردية بالواقع الاجتماعي والمعرفي والإنساني. وبالتالي فإنه ومن خلال متوالية التحويل يقدم لنا جبير منظورًا ديناميكيًا للرواية، مع التركيز على التحول من الجمود إلى الحركة. هذا المفهوم قد يكون مفتاحاً لفهم كيفية تعامل الرواية مع معطيات العصر الذي تولد فيه، ومن مناخ البيئة.
جبير يستخدم مصطلح الصدمة، من جوانب نفسية واجتماعية (صدمة ما بعد الحروب والكوارث) ويطبقها على السرد، لربط البنية الجمالية للأدب بالبنية النفسية والاجتماعية للمجتمع.
يحتوي الكتاب على عدة فصول منها: (في التحول من السكون إلى الحركة. وعتبة أولى للنهوض السردي. و صدمة التحديث السردي.
قلب الكتاب التطبيقي
“متوالية التحويل من السكون إلى الحركة” أرى أن هذا الفصل هو قلب الكتاب التطبيقي، بالعودة إلى العنوان الرئيسي للكتاب هو نفسه يشير إلى نموذج تحليلي ديناميكي. فهو لا يحلل الحالة (السكون أو الحركة) بل يحلل التحويل بينهما. هذا يجعل التحليل يركز على (العتبات) و(اللحظات المفصلية) في النص الروائي، وهي لحظات درامية عالية الكثافة.
مشروع نقدي واضح
محمد جبير من النقاد العراقيين البارزين الذين يمتلكون مشروعاً نقدياً واضحاً، غالباً ما يركز على تحليل الخطاب الروائي وتفكيك آليات اشتغاله. وهو في معظم مشروعه النقدي يركز على السرد الروائي، وعلى فضاء وعوالم الرواية. ذلك عبر المفهوم القوي في كونه يشخص حالة أساسية في رواية تكتب من داخل مجتمعات تعاني الهزات والتحولات العنيفة. الكتاب يقدم نظرية نقدية “محلية” تنبع من سياقها الخاص، بدلاً من استيراد النظريات الجاهزة فقط.
تفكيك ثنائية السكون والحركة
يعمل جبير على تفكيك الثنائية التقليدية (سكون وحركة) ليكشف أنها ليست متنافية، فالسكون قد يكون مشحوناً بالطاقة، والحركة قد تكون انهزامية أو عشوائية. التحويل هو ما يعطي المعنى لكليهما. كما ينجح حين يربط هذه المتوالية بالسياق السردي، الذي ينعكس على الأفراد، وكيف تتحول المجتمعات من سكون الاستبداد أو الجمود إلى حركة، أو حين تعكس الرواية هذه المتوالية على مستوى الشخصيات والحبكة والأفعال الدرامية وعلى مستوى الاشتغالات في السرد الروائي.
ومن خلال تطبيق هذا المفهوم على نماذج روائية، يظهر كيف أن (الصدمة) هي المحرك الذي يدفع بالسرد من حالة السكون (ما قبل الصدمة) إلى حالة الحركة (تفاعل مع الصدمة)، أو لنقل البحث عن معنى أو هوية جديدة.
أصالة الفكرة
فكرة هذا الكتاب غير مطروقة من قبل، وهو نادر جداً من حيث تناول الصدمة في السرد، بعيداً عن الجمود و(القولبة) الجاهزة الفجة، إذ تكمن جماليات هذا التنحي للصدمة من قبل الكاتب من خلال نشوء علاقة ود وعمق في تطبيقه بشكل مدروس وممنهج على نصوص سردية مختلفة، تبلورت في تلك العلاقة مع النظرية السردية الكلاسيكية، وكيفية تعامل محمد جبير مع مفاهيم سردية راسخة في كلاسيكياتها القديمة مثل (العقدة) و(الحل) والبناء والعوالم الزمنية وتراجيديتها.
بعد حداثوي
نجح المؤلف في إكساء كلاسيك السرد عبر تسميات لها بمصطلحات نقدية جديدة، وإضافة بعداً تحليلياً حداثوياً. كذلك نجح في منهجه التحليلي باستخدام الأدوات التحليلية الحديثة التي استخدمها لقياس (السكون) و(الحركة). في وتيرة الأحداث في المسرود، وكثافة الأفعال، والحالة النفسية للشخصيات، والحوار الداخلي و(المونولوج) و(الديالوج).
هذه الاشتغالات الحداثوية هي التي يحتاجها القارئ الطموح لرؤية نقدية منهجية حداثوية واضحة، تجعله بعيداً عن النقد الانطباعي والكلاسيكي في التحليل. الذي أثرى مخيلة القارئ.
إسهام نقدي
(الصدمة السردية) إسهام مهم في “نقد ما بعد الكارثة”، وهو حقل ناشئ يهتم بالأدب المنتج في ظل الظروف الصعبة، ويضع جبير –عربياً– على خريطة هذا النوع من النقد.
نجد أن لغة محمد جبير جزلة وغنية، وفيها مناخ روائي حافل بالتشويق والمتعة في متابعة القراءة.
كتاب (الصدمة السردية) لمحمد جبير، بفصوله وأبوابه على مدى 165 صفحة.
وفي النهاية، الكتاب خطوة مهمة نحو تأصيل خطاب نقدي عربي، لا يستهلك النظريات، بل ينتجها انطلاقاً من نصوصه وواقعه. وهو مشروع نقدي طموح ومهم. يحاول تأسيس مفهوم نقدي جديد (الصدمة السردية) من العالمي إلى الواقع العربي. عبر تقديم أداة تحليلية ديناميكية (متوالية التحويل) تركز على لحظات التحول الدراماتيكي في النص السردي.
الكتاب صادر عن دار(اسكرايب)2025، كما سبق وصدرت للناقد عدة كتب نقدية هامة في سوريا مثل كتاب جنائن السرد. دار التكوين. وكتاب الرواية الاستقصائية دار نينوى. وكتاب قراءة النص السردي. دار أمل. وفي عدة عواصم عربية.